الجزائر

الأخلاقيات التي‮ ‬بهرت أحرار العالم‮!‬



الأخلاقيات التي‮ ‬بهرت أحرار العالم‮!‬
قطع القس البروتستاني‮ ‬الأمريكي‮"‬لستر جريفيلد‮" ‬على متن دراجته أكثر من مائة كيلومتر وهو‮ ‬يعرّف الرأي‮ ‬العام الأمريكي‮ ‬بالقضية الجزائرية إبان حرب التحرير الكبرى؛ والسبب أنه وقع أسيرا في‮ ‬أيدي‮ ‬جيش التحرير الوطني‮ ‬ومكث أياما في‮ ‬جبال أكفادو بجبال جرجرة،‮ ‬فأذهله وبهره ما رآه من أخلاق إنسانية رفيعة تجلت في‮ ‬حسن معاملة المجاهدين له ولغيره من الأسرى؛ لقد كان أقصى ما‮ ‬يأمل فيه هو أن‮ ‬يطبق أولئك المجاهدون عليهم قوانين الحرب،‮ ‬أما أن‮ ‬يحسنوا إليهم ويؤثروهم على أنفسهم في‮ ‬المأكل والفراش والمأوى فذلك مالم‮ ‬يكن‮ ‬يخطر على قلبه أو‮ ‬يقوى عليه خياله‮!‬ولما أطلق سراحه أدلى بأول تصريح له في‮ ‬سويسرا فقال‮ "‬لقد شهدت انفجار قنبلة رهيبة في‮ ‬جبال جرجرة فحمدت الله على كون فرنسا لا تملك القنبلة النووية‮".‬ولم‮ ‬يكفّ‮ ‬بعد ذلك هذا القس عن الإشادة بتلك الأخلاق الرفعية لجيش التحرير الوطني،‮ ‬فكانت إشادته تلك سببا في‮ ‬التحول الذي‮ ‬برز على مستوى الرأي‮ ‬العام الأمريكي،‮ ‬وقد عبّر عن هذا التحوّل آنذاك السيناتور روبير كينيدي‮ ‬الذي‮ ‬انتخب سنتين بعد ذلك رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية‮! ‬كما أشاد بهذه الأخلاق بعض الفرنسيين أنفسهم بعد احتكاكهم بجيش التحرير الوطني؛ فقد كتب صحفي‮ ‬فرنسي‮ ‬زار الولاية الخامسة عام‮ ‬1957‮ ‬يقول"لقد شاهدت بعيني‮ ‬أسيرين فرنسيين‮ ‬يعيشان بين المجاهدين،‮ ‬يأكلان مما‮ ‬يأكلون ويقرآن الصحف‮!".‬وصرح نواب ألمان قائلين‮ "‬إن سلوك جيش التحرير قد أدهشنا وملك قلوبنا،‮ ‬وعلى الذين‮ ‬ينعتونه بقُطّاع الطرق أن‮ ‬يقوموا بجولة وسط هذا الجيش‮!" ‬لقد كتب الكثير عن ثورة التحرير التي‮ ‬بهرت العالم بعبقريتها التخطيطية والسياسية والعسكرية،‮ ‬وهي‮ ‬صفات قد‮ ‬يُشاركها فيما‮ ‬غيرها من الثورات التحريرية،‮ ‬لكن الذي‮ ‬تميزت به‮ - ‬إلى جانب ذلك‮ - ‬وبهرت به أحرار العالم‮ ‬يتمثل في‮ ‬أخلاقياتها الإنسانية الرفيعة التي‮ ‬جسدها بكل روعة وجلال سلوك مجاهدي‮ ‬جيش التحرير الوطني،‮ ‬خصوصا بعد أن جعل منها مؤتمر الصومام دستورا أخلاقيا طبق بكل دقة في‮ ‬كافة ربوع الوطن لأن هذا الدستور لم‮ ‬يكن جملة من القوانين التي‮ ‬تفرض فرضا وإنما كان تجسيدا لقيم دينية وخلقية أصيلة‮ ‬ينبض بها وجدان كل مجاهد‮!‬هذا البعد الروحي‮ ‬الأخلاقي‮ ‬لثورة نوفمبر لم‮ ‬يحظ بعد بالقدر الكافي‮ ‬من الاهتمام‮!‬إن هناك من الحقائق التاريخية الكبرى التي‮ ‬أصبحت من المسلمات ما‮ ‬يحتاج أحيانا إلى التذكير به وتوجيه النظر إليه من جديد لبعث أثره في‮ ‬نفوس النشء،‮ ‬وإذكاء وجدانه وشحن ذاكرته؛ ومن هذه المسلمات بخصوص ثورة نوفمبر أن صفة المجاهدين التي‮ ‬عُرف بها الثوار كانت تختزل في‮ ‬ذاكرة المجتمع الجزائري‮ ‬أربعة عشر قرنا من الزمن لتربط بينهم وبين أسلافهم من المسلمين الأولين الذين بشرهم ربهم بزوال دولة الشرك،‮ ‬وهم‮ ‬يومئذ قلة مستخفية بمكة المكرمة في‮ ‬قوله‮ "‬وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا"؛ ومثلما عجلت‮ ‬غزوة بدر الكبرى بزوال دولة الشرك تحقيقا لوعد الله سبحانه،‮ ‬كذلك كانت رصاصة أول نوفمبر إيذانا بزوال ليل لاستعمار الطويل لأن الذي‮ ‬أذكى جذوة المجاهد في‮ ‬الحالين هي‮ ‬صيحة الله أكبر‮!‬ولقد جسد المجاهدون مضمون هذه الصفة فكانوا مثالا وقدوة في‮ ‬التمسك بالدين وتعظيم شعائره والتحلي‮ ‬بأخلاقه؛ ولا عجب فثورة التحرير قد حرصت حتى في‮ ‬تلك الظروف القاسية على التثقيف الديني‮ ‬إلى جانب التكوين السياسي‮ ‬في‮ ‬البرامج المنظمة التي‮ ‬كانت تطبق في‮ ‬مستوى وحدات جيش التحرير الوطني‮ ‬وفي‮ ‬السجون والمعتقلات؛ وبذلك جسدت فلسفتها المتكاملة القائمة على الإسلام عقيدة ومبادىء وأخلاقا وعلى الأخذ بمنطق العصر ومقتضيات التطور في‮ ‬الأساليب والكيفيات والوسائل‮!‬هذا البعد الروحي‮ ‬لثورة نوفمبر هو الذي‮ ‬عرضها لحملات التزييف في‮ ‬كتابات المستعمرين الذين‮ ‬يحاولون تجريدها من عقيدتها ليهون في‮ ‬نظر أجيال الاستقلال فضل الإسلام عليها وتبقى مجرد ثورة تحريرية ككل الثورات التحريرية في‮ ‬العالم‮. ‬ولكن هيهات‮!‬فكلنا‮ ‬يعلم أن الاستعمار الفرنسي‮ ‬للجزائر كان ذا نزعة صليبية حاقدة تجلت في‮ ‬ذلك المخطط المحكم الذي‮ ‬تعاون على تنفيذه رجال الكنيسة مع رجال السياسة وقادة الجيش،‮ ‬ولا أدل على ذلك من قولة الكاردنا لافيجري‮ ‬المشهورة‮ "‬إن إدخال الزهالي‮ ‬في‮ ‬الديانة المسيحية واجب مقدس وإن أول ما‮ ‬يجب علينا فعله هو الحيلولة بينهم وبين القرآن‮!"‬إن هذا البعد العقيدي‮ ‬الخطير للاحتلال الفرنسي‮ ‬هو الذي‮ ‬يفسر كون معظم أبطال المقاومة الشعبية وقادة الثورات المسلحة هم علماء دين وقادة روحيين استطاعوا أن‮ ‬يهزوا وجدان الشعب لأنهم‮ ‬يخاطبونه باسم الدين الذي‮ ‬هو أقدس مقدساته،‮ ‬ولقد سجلت هذه الحقيقة رسالة رفعها الشعب الجزائري‮ ‬إلى المسؤولين الفرنسيين جاء فيها‮:"‬إننا لن نتخلى أبدا عن ديننا وإذا كانت الحكومة تريد إرغامنا على ذلك فإننا نفضل الموت على اعتناق ديّانتكم‮"!‬إن ثورة التحرير الكبرى هي‮ ‬امتداد لهذه الثورات التي‮ ‬لم تنقطع،‮ ‬وتتويج لها جميعا،‮ ‬فمن الطبيعي‮ ‬أن نجد كل ما‮ ‬يميزها ويرتبط بها مصبوغا ومفعما بهذه الروح الدينية الأصيلة بدءا بتاريخ اندلاعها؛ فالفاتح من نوفمبر‮ ‬1954‮ ‬صادف في‮ ‬التاريخ الهجري‮ ‬6‮ ‬ربيع الأول‮ ‬1374؛ فهي‮ ‬انطلقت في‮ ‬الشهر الذي‮ ‬ولدت فيه البشرية من جديد بميلاد المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه،‮ ‬فكان ذلك بالنسبة للمجتمع الجزائري‮ ‬انبعاثا وتحررا وكان بالنسبة للمستعمر انهزاما وانكسارا لأن هذا التاريخ صادف عنده ذكرى الأموات‮!‬




سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)