الجزائر

افتتاح : البيرين، بوطاجين، المسرح •• 50 سنة



تدور في رأسي الكثير من الخطوط التي أرغب في وصلها ببعض لأجسد بها ملامح موضوع على هذه المساحة·· تصفحت مواضيع الأثر وأعدت تصفحها لأجد طريقي إلى الكتابة منذ الصباح، لكن بلا فائدة·· عبثا أحاول لأجد ذهني يعود إلى أزهار شجر الخوخ والمشمش الرائعة التي رأيتها أمس في طريق عودتي إلى العاصمة من مسقط رأسي، البيرين، تلك القرية التي تحولت منذ زمن بعيد إلى دائرة فيها تعداد سكاني كبير، والكثير مما يسمونه بالمرافق الضرورية وغيرها من الأمور التي توجد في كل المدن الكبيرة منها كما الصغيرة في الجزائر، لكنها لم تنجح أبدا في تجسيد المفهوم الحقيقي لمعنى المدينة، وظلت إما بعيدة عن المقاييس أو بعيدة عن الخصوصية المحلية لمختلف المناطق·· موضوع السعيد بوطاجين حول المحلية والخصوصية وصورة تلك الأشجار جعلتني استحضر جمال القرية الذي شوهه كثيرا مشروع التحول نحو المدينة، فبالقرب من منزلنا الواقع وسط البلدة الصغيرة كانت توجد حديقة رائعة نسميها ''الجردينة''، وكما هو واضح التسمية هي تعريب حرفي لكلمة jardin، في هذا الوقت من كل سنة كانت تتحول تلك الحديقة إلى جنة مزينة بأزهار أشجار المشمش البيضاء وأزهار الخوخ الوردية الرائعة، دائما كنت أتمنى لو أنها لا تتحول إلى ثمار وتبقى بذلك الشكل الساحر، لكنها كانت تتحول سريعا إلى ثمار وننسى جمالها ويحاول الأولاد القفز من سور الحديقة خفية عن عمي مسعود الحارس خصوصا في وقت الإفطار في شهر رمضان لإحضار تلك الثمار التي كنا نلتهمها بشراهة قبل أن تنضج·· في نفس المكان كنا نلعب ألعابا تقليدية بالقرب من شجرة التوت الأبيض المقابلة لشارعنا·· ونصطف على حافة ''الواد'' عندما يسقط المطر ويمتلئ بالماء·· ونضحك ملء أفواهنا وبقرة عمي أحمد مسروقي جارنا الحمراء تمشي وتتبختر على الطريق المعبد ونحن نقصد المدرسة·· لا أزال أشتم رائحة ''الرفيس'' الطيب الذي تعده كل بيوت القرية في فصل الربيع وتزينه أمي وتسيح فوقه الزبدة وأقداح اللبن تتحول بين الأيدي·· كالحلم أتذكر جيراننا في فصل الربيع ونحن نقصد الصحاري القريبة للنزهة ونجلب معنا نبتة ''الحارة'' التي يطهوها الجميع على البخار في المساء، لم أكن أحبها، طعمها ورائحتها مقرفة وتأكلها العجائز بنهم، لكن كانت تلك الرائحة على بشاعتها تشعرني بالحميمية ووحدة الناس وجمال نزهة الربيع·· أتذكر خالتي الجميلة الرائعة مريم التي عرفتها وهي عجوز وكانت بعد أن تغادر بيتنا عقب زيارة خفيفة ومؤثرة نتعارك حول من سيتغطى ببطانيتها بسبب رائحتها الزكية التي كانت تبقى لأيام في منزلنا·· كل هذه الأمور الحميمة والجميلة باتت مجرد ذكرى، ما الذي حدث، عندما أسمع الجميع يتكلم عن الجزائر 50 سنة ما الذي تحقق، أشعر بالخيبة، كل الأشياء الجميلة والتقاليد و''النية'' التي قاومت الاستعمار ووصلت إلينا لم نستطع الحفاظ عليها، والخيبة الكبرى في الخمسينية هي الانهيار الاجتماعي الحاصل، ما الذي ستجده الأجيال القادمة غير العنف والتعصب، الخوف وقلة الثقة، حالة مرعبة من اللااحترام، اللاذوق، اللاجمال·· أجيال لا تستحضر هويتها وانتماءها إلا في ماتش كورة؟ أجيال لا تعرف شيئا عن روح دينها وسمو معنى الارتقاء فيه، لن تعرف إلا ما ستخلفه السلفية الوهابية التي باتت أطنابها ضاربة في المجتمع من شك وخوف وصل حتى درجة فتوى بعض شيوخها بعدم جواز جلوس البنت لأبيها في غياب أمها خوفا من أن يوزه الشيطان عليها إذا ما اختلى بها؟في يوم عيد المسرح نوجه نداء إلى الفاعلين في مجال أب الفنون أن يلتفتوا إلى المسرح المدرسي ويساعدوا أطفالنا على الإحساس بهويتهم واختلافهم·· كي لا نصحو بعد 50 سنة أخرى وندرك أننا فقدنا حتى الانتماء·


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)