اعترافات قاتل إقتصادي كتاب ل”جون بيركنز” العميل السابق لوكالة الامن القومي الاميركية ، يقدّم فيه شهادة من الداخل عن الدور الذي تلعبه البنوك والشركات العالمية لسرقة دول العالم الثالث وإغراقها بالديون ومن ثم وضعها تحت إشراف البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، بينما تسرق الشركات المتعددة الجنسيات، مثل هاليبرتون و بيكتل مواردها بحجة التنمية.يقول بيركنز ان القتلة الاقتصاديين هم قتلة محترفون، يقبضون أعلى الأجور، ليبتزوا رؤساء الدول في شتَّى أنحاء العالم، ويسرقوا مليارات الدولارات منها. وكان بيركنز نفسه أحد هؤلاء القتلة،جنّدته (سي آي إيه) سرّاً، وعمل معها تحت غطاء عمله في شركة استشارية دولية، فزار أندونيسيا وكولومبيا وبنما والإكوادور والمملكة العربية السعودية وإيران وسواها من الدول التي تمتلك أهمية في الاستراتيجية الأميركية.
وكانت مهمّته تتركّز على تطبيق السياسات التي تخدم مصالح تحالف أميركي، يضمّ الحكومات،والشركات في الوقت نفسه العمل على تسكين أعراض وآثار الفقر إجراءات ظاهرية خادعة. وترك الكاتب وظيفته بعد تفجيرات11 أيلول 2001، ونذر نفسه لفضح هؤلاء القتلة- الذي كان هو نفسه يوما واحد منهم – من خلال كتابه اعترافات قاتل اقتصادي، وأهداه إلى روحَي رئيسين سابقين، لدولتين من دول امريكا اللاتينيَّة، هما الرئيس الأسبق للإكوادور خايمي رولدوس، والرئيس الأسبق لبنما عمر تورِّيخوس، وكلاهما قُتلا في حادث طائرة مُفتعل على حدِّ وصف الكاتب، ذلك “لأنَّهما وقفا في وجه الشركات والمصارف والحكومات التي تهدف إلى إقامة إمبراطوريَّة عالميَّة عن طريق نهب ثروات بلدانهم الطبيعية . والذي ذهب هو بنفسه اليهما وحاول ابتزازهما ولكنهما رفضا ، فتعرضا للاغتيال بأسقاط طائراتيهما الرئاسيتان.الكتاب ترجمه الكاتب الاردني بسام ابو غزالة
باستثناء نوباتٍ من الشعور بالذنب كانت تنتابني بين الحين والحين أصبحتْ كولُمبيا ملاذا شخصياً لي. وقد قضينا آنْ وأنا شهرين هناك في وقتٍ مبكر من سبعينات القرن العشرين. بل إني دفعتُ دفعةً أولى لمزرعة قهوةٍ صغيرة في الجبال فوق الساحل الكاريبي. أعتقد أنّ الوقت الذي قضيناه معاً كان أفضلَ ما فعلنا لمداواة الجروح التي سببناها أحدنا للآخر خلال السنوات الماضية. لكنّ تلك الجروح في نهاية المطاف تعمقت أكثر من أنْ تُحتمل. ولم أتعرّفْ جيداً على تلك البلاد إلا بعد أنْ تداعى زواجُنا.
خلال سبعينات القرن العشرين مُنحتْ شركة مين عددا من العقود لتطوير عدة مشاريع بنية تحتية تتضمّنُ شبكةً للمرافق الكهرومائية وأنظمةَ توزيع لنقل الكهرباء من أعماق الأدغال إلى المدن في أعالي الجبال. خُصِّصَ لي مكتبٌ في مدينة بَرَنْكْوِلاّ الساحلية وحدث في العام 1977 هناك أنني التقيتُ بامرأةٍ كولُمبية جميلةٍ أصبحت عاملاً قوياً في تغيير مجرى حياتي.
كانت بولا ذاتَ شعرٍ أشقرَ طويلٍ وعينين خضراوين ساحرتين – وهو ما لا يتوقعُه معظمُ الأجانب لدى امرأة كولُمبية. كان أبوها وأمُّها قد هاجرا من شمال إيطاليا والتزاماً بإرثها أصبحت مصممة أزياء. لكنها تقدمت خطوة إلى الأمام إذ أنشأت مصنعاً صغيراً كان يتحوّلُ فيه إبداعُها إلى ملابس تبيعُها في متاجر الطبقة العليا في البلاد وكذلك في بنما وفنزويلا. كانت امرأةً مُفعمةً بالمحبة ساعدتني في التغلب على بعض الصدمات الشخصية من جرّاء زواجي المتداعي وفي البدء في معالجة بعض مواقفي من النساء وهو ما أثر بي بصورة سلبية جدا. كذلك أرشدتني كثيرا بالنسبة إلى نتائج السلوك الذي أسلكه في وظيفتي.
كما قلتُ سابقاً تتألّفُ الحياةُ من سلسلة من المصادفات التي لا نملك لها ضابطا. من هذه المصادفات في حياتي أنني نشأتُ ابناً لأبٍ يُعلِّمُ في مدرسة إعدادية للذكور في نيوهامبشَيَر الريفية. ثم قابلتُ آن وعمّها فرانك الذي اشترك في حرب فيتنام وكذلك آينر غريف. غير أنه حين تأتينا هذه المصادفات تكون أمامنا الخيارات. والذي يصنع الفرق يكمنُ في استجابتنا لهذه المصادفات وتصرفنا إزاءها. والمثلُ على ذلك أن تفوُّقي في المدرسة وزواجي من آن وانضمامي إلى فرقة السلام واختياري أن أصبح قاتلا اقتصاديا – كلُّ هذه القرارات أوصلتني إلى حيث أنا في الحياة.
كانت بولا مصادفة أخرى. وكان لتأثيرها أنْ يقودني إلى التصرف بما غيّر مجرى حياتي. فإلى أنْ التقيتٌُ بها كنتُ ماضياً قُدُما مع ذلك النظام. غالباً ما وجدتني أتساءل عما أفعل وكان أحيانا ينتابني شعور بالذنب تجاهه غير أني كنت دائماً أكتشفُ وسيلةً لتبرير بقائي. لعل بولا صادفتني في الوقت المناسب. ولعلّ من المحتمل أنني كنت سأُقدِمُ على تلك الاندفاعة على أي حال وأنّ تجاربي في السعودية وإيران وبنما كانت ستدفعُني إلى العمل. لكنني كنتُ واثقاً من أنه حتى حين كانت امرأةٌ أعني كلودين فعّالةً في إقناعي أن أنضمَّ إلى صفوف القتلة الاقتصاديين فإن امرأةً أخرى هي بولا كانت الحافز الذي كنتُ في حاجةٍ إليه في ذلك الوقت. لقد أقنعتني أن أغوص في أعماق نفسي لأرى أنني لن أكون سعيداً أبداً ما دمتُ أُمارسُ ذلك الدور.
الفصل الثاني والعشرون
الجمهورية الأمريكية مقابل الإمبراطورية العالمية
كنا ذات يومٍ نجلسُ في مقهى حين قالت بولا، “سأكون صريحة معك. الهنودُ وجميعُ الفلاحين الذين يعيشون على طول النهر الذي تُقيمون عليه السدَّ يكرهونكم. حتى أهلُ المدن الذين لم يتأثّروا مباشرة يتعاطفون مع المغاوير الذين يُهاجمون مخيّم إنشاءاتكم. أما حكومتُكم فتصفُ هؤلاء بالشيوعيين، والإرهابيين، ومهرِّبي المخدِّرات. لكنّ الحقيقةَ أنهم محضُ أناس لهم أُسَرٌ ويعيشون على الأراضي التي تُدمِّرُها شركتُكم.”
كنتُ للتوِّ أخبرتُها عن مانوِل تُرِّس، وهو مهندسٌ يعمل لدى شركة مين، وأحدُ الرجال الذين هاجمهم المغاويرُ في موقع إنشاء السدّ الكهرومائي التابع لنا. كان مانوِل مواطنا كولُمبياً وُظِّفَ بناءً على سياسةٍ تمنعُنا من إرسال مواطنين أمريكيين إلى ذلك الموقع. ويصفُ هذه السياسةَ بعضُنا، بمن فينا زملاؤنا الكولُمبيون، بأنها تتبعُ المبدأُ القائل إن الكولُمبيين يمكن الاستغناءُ عنهم، وهو ما يرمزُ إلى موقفٍ نشأتُ على كرهه. وكانت مشاعري تجاه مثل هذه السياسات تزيدُ من مصاعبي في التعايش مع نفسي.
قلتُ لبولا، “بالنسبة إلى مانوِل، لقد أطلقوا الكلاشنكوف في الهواء وعلى قدميه. وحين أخبرني بذلك، بدا عليه الهدوء، لكنني أعلم أنه كان على شفا الانهيار. لم يقتلوا أحدا، بل اكتفَوْا بإعطائهم تلك الرسالة وإعادتهم في قواربهم.”
صاحت بولا، “يا إلهي! لقد أرعبوا المسكين.”
قلتُ لها، “طبعا أرعبوه.” ثم أخبرتُها بأنني سألتُ مانوِل إن كان يعتقد أنهم من منظمة “فارك” أو من منظمة م-19،* مشيراً إلى منظمتين من أسوا المغاوير الكولُمبيين.
“ثم؟”
“قال ليسوا من أيٍّ منهما. لكنه أخبرني بأنه يؤيد ما قالوه في تلك الرسالة.”
عندئذٍ أخذتْ بولا الجريدة التي جئتُ بها وقرأت الرسالة بصوتٍ عال.
“نحن الذين نعمل كلّ يوم لنبقى على قيد الحياة، نُقسمُ بدم أسلافنا ألا نسمحَ ببناء السدود على أنهارنا. إننا هنودٌ وهُجَناءُ بسطاء. لكننا نفضل الموت على السكوت عن إغراق أراضينا. نُحذر إخواننا الكولُمبيين: توقفوا عن العمل في شركات البناء.”
وإذ وضعتْ بولا الجريدة سألتني، “وماذا قلتًَ له؟”
تردّدتُ لحظة قصيرة، ثم قلتُ، “لم يكنْ لديّ خيار. كان عليّ أن أتبع أسلوب الشركة. سألتُه إنْ كان يعتقد بأنها رسالةٌ تشي بأنّ من كتبها فلاح.”
كانتْ تراقبُني بصبر.
“اكتفى بهزِّ كتفه.” وإذ التقتْ عينانا، قلت، “آه، بولا، إنني أحتقر نفسي للقيام بهذا الدور.”
فقالت ضاغطةً عليّ، “وما الذي فعلته بعد ذلك؟”
“ضربتُ المكتبَ بقبضتي. أرعبتُ الرجل. سألتُه إذا كان الفلاحون الذين يحملون الكلاشنكوف يعنون شيئاً له. ثم سألتُه من اخترع الكلاشنكوف.”
“هل كان يعرف؟”
“نعم. لكنني بصعوبة استطعتُ سماعَ جوابه. قال إنه رجل روسيّ. أكّدت له، طبعا، أن جوابه صحيح، وأن المخترع كان شيوعيا يُدعى كلاشنكوف، وهو ضابط يحمل أوسمة رفيعة في الجيش الأحمر. وأفهمتُه أن الذين كتبوا الرسالة شيوعيون.”
سألتْ، “أتصدق ذلك؟”
استوقفني جوابها. كيف لي أنْ أُجيبها بأمانة؟ تذكرتُ إيران ويوم وصفني يامين برجل في منتصف الطريق بين عالمين. بطريقةٍ ما، تمنيتُ لو كنتُ في ذلك المخيّم حين هاجمه المغاوير، أو لو كنتُ واحداً منهم. انتابني شعورٌ غريب، ضربٌ من الحسد تجاه يامين و(دُك) والمتمردين الكولُمبيين. إنهم رجال مؤمنون. لقد اختاروا عالماً حقيقياً، لا منطقة حرامٍ بينَ بين.
قلتُ لها أخيراً، “عندي مهمّةٌ يجب عليّ أداؤها.”
فابتسمتْ بلطف.
استأنفتُ قائلا، “أمقتها.” فكّرتُ بأولئك الرجال الذين كثيراً ما تحضرني صورهم، توم بين وغيره من أبطال الحرب الثورية، وكذلك القراصنةُ وحرسُ الحدود. كلهم كانوا يقفون على الحدِّ، لا في الوسط. لقد تشبّثوا بمواقفهم وعاشوا بنتائجها. “في كلِّ يوم أزداد كرها لوظيفتي، شيئاً فشيئا.”
أخذتْ يدي بيدها وقالت، “وظيفتُك؟”
التقت أعيننا وبقينا هكذا. فهمتُ ما تعنيه. “أنا.”
شدّتْ على يدي وأومأتْ ببطء. فشعرتُ فوراً بالارتياح لمجرَّد الاعتراف به.
“ما الذي ستفعله، جون؟”
لم أملك لها جوابا. فقد تحوّل ارتياحي إلى مدافعة. أخذتُ أُتأتئُ بالتبريرات المعهودة: أنني كنتُ أحاول فعل الخير، أنني كنتُ أستكشفُ الوسائل لتغيير النظام من داخله، أنني – وهو المبرِّرُ المعروف – إنْ تركتُ، فإن أحدا غيري، بل أسوأ مني، سوف يأخذُ مكاني. لكنني كنتُ أرى من طريقة مراقبتها إياي أنها لن تشتري بضاعتي. بلْ الأسوأُ أنني كنتُ أعلم أنني لن أشتريها أيضا. لقد أجبرتني على إدراك الحقيقة الجوهرية: ليس المَلامُ على وظيفتي، بل عليّ أنا.
أخيراً سألتُها، “ماذا عنكِ أنتِ؟ بمَ تؤمنين؟”
تنهّدتْ قليلا وتركتْ يدي، سائلة، “أتحاولُ تغييرَ الموضوع؟”
أومأتُ موافقا.
وافقتني قائلة، “لا باس، بشرطٍ واحد، أن نعودَ له في يوم آخر.” تناولتْ ملعقة وبدا عليها أنها تتفحصها. “أعلمُ أن بعضَ المغاوير تدربوا في روسيا والصين.” غمستْ الملعقة في فنجان قهوتها بالحليب وحركتها، ثم لعقتها ببطء. “ماذا يستطيعون أنْ يفعلوا غير هذا؟ هم يحتاجون إلى أن يتدرّبوا على الأسلحة الحديثة وعلى محاربة الجنود الذين يتعلمون في مدارسكم. أحيانا يبيعون الكوكئين ليحصلوا على المال لشراء احتياجاتهم. فبغير ذلك كيف يشترون السلاح؟ إنهم يُقارعون خطوبا بغيضة. وبنكُكم الدولي لا يُساعدهم في الدفاع عن أنفسهم. بل الحقيقةُ أنه يُجبرُهم على هذا الوضع.” ارتشفتْ رشفةً من قهوتِها، ثم قالت، “أنا أومن بعدالة قضيتهم. فالكهرباءُ ستساعد القلة فقط، الكولمبيين الأثرياء، أما الآلافُ، فسيموتون لأن السمك والماء سوف يُسمَّمان بعد أن تبنوا سدّكم هذا.”
سماعي لها تتكلمُ بهذا التعاطف عمن يُعارضوننا، جعل جلدي يُنمِّل، وألفيتُني أحكُّ ذراعيّ.
“كيف تعرفين كلَّ هذا عن المغاوير؟” حتى حين سألتُ، انتابني شعورٌ بالخوف، بتحذير مسبق أنني لا أرغب في معرفة الجواب.
قالتْ، “كان بعضُهم زملائي في المدرسة.” ترددتْ ودفعتْ فنجانها بعيدا قبل أنْ تقول، “أخي انضمّ إلى الحركة.”
هكذا كان. شعرتُ أنني انكمشت تماما. كنتُ أظنني أعرف كلّ شيءٍ عنها، أما هذا ... مرتْ بخيالي سريعاً صورة رجل يعود إلى بيته فيجدُ زوجته في الفراش مع رجل آخر.
“كيف لم تخبريني من قبل؟”
“لم أجد لذلك علاقة. لماذا أخبرك؟ ليس شيئاً أتفاخر به.” سكتتْ قليلا، ثم قالت، “لم أره منذ سنتين. عليه أن يكون حريصا.”
“كيف تعرفين أنه لا يزال حيا؟”
“لا أعرف. إلا أن الحكومة وضعته حديثاً في قائمة المطلوبين. هذه إشارة جيدة.”
كنتُ أقاومُ حافزاً لديّ في أن أكون في موقف الحُكْم أو الدفاع. وكنتُ آمل أنها لم تُدركْ حسدي لها. سألتُها، “كيف أصبح واحدا منهم؟”
.. يتبع
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 25/08/2013
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : الفجر
المصدر : www.al-fadjr.com