الجزائر

إبادة الكتب والمكتبات لا تختلف عن الإبادة الجماعية والإثنية



شاهدت البشرية بذهول في القرن العشرين وحتى في القرن الحادي والعشرين حملات حرق وتدمير للكتب والمكتبات، التي لم تتوقف مع النازيين أو الشيوعيين واستمرت مع المتطرفين الإسلاميين في العراق وسوريا، فيما اعتبر جريمة ومحاولة لمحو ثقافات الشعوب وتدميرا حضاريا كاملا، لكن هذه الظاهرة لها العديد من الأوجه كما تحللها الباحثة ربيكا نوث.لماذا تستهدف الكتب والمكتبات عمدا بالتدمير؟ ما الرابط بين إبادة الكتب والعنف السياسي؟ ما تأثير إبادة الكتب في الأفراد والمجتمع؟ كيف توظف الأفكار لتبرير تدمير الكتاب؟ وما الظروف الاجتماعية الثقافية التي تساند هذا التدمير؟ وعلى أي أساس تقيم الكتب والمكتبات؟
انطلاقا من هذه التساؤلات وتساؤلات أخرى ترتبط ارتباطا وثيقا بإبادة الكتب والمكتبات، هذه الإبادة التي لا تزال تمارس، سعت الباحثة بجامعة هاواي ربيكا نوث في كتابها "إبادة الكتب وتدمير المكتبات برعاية الأنظمة السياسية في القرن العشرين" إلى التأكيد على أن حملات إبادة الكتب والمكتبات ليست مجرد جرائم عشوائية يرتكبها برابرة وظلاميون، بل وسيلة من وسائل شن الحرب تتسم بأنها عندية وممنهجة، توظف العنف لحرمان جماعة ما من حقوقها لخدمة أيدولوجية متطرفة.
..ليست مجرد شر
تبدأ ربيكا نوث كتابها، الذي ترجمه عاطف سيد عثمان وصدر عن سلسلة عالم المعرفة، باستكشاف ردود الأفعال على تدمير الكتب، وتقيم الحجة على أن إبادة الكتب جريمة قائمة، وبينت الرابط بينها وبين الإبادة الجماعية والإبادة الإثنية. لتناقش بعد ذلك نشوء المكتبات ووظائفها، لتربط بين المكتبات من جهة والتاريخ والذاكرة الجمعية وأنساق المعتقدات والقومية والتطور المجتمعي من جهة أخرى.
ثم تعرض الباحثة لخمس حالات عن طريق طرح إطار نظري لقراءة حملات إبادة الكتب، إذ تبرر المعتقدات التي يتبناها المتطرفون، والتي تتحول على أيديهم إلى أيديولوجيات ديناميات تدمير الكتب، كما هي الحال على يد النازيين في الحربين العالميتين الأولى والثانية، والصرب في البوسنة، والعراقيين في الكويت، والماويين أثناء الثورة الثقافية الصينية، والشيوعيين الصينين في التبت. وفي أثناء سبرها حملات اليسار أو الشيوعيين لإبادة الكتب، كشفت أن الاتحاد السوفييتي سابقا اقترف بعض أفظع جرائم التدمير الثقافي في القرن العشرين على الإطلاق، سعيا للقضاء على الهوية القومية في أوساط القوميات التي يتألف منها.
تقول نوث إن "الكتب والمكتبات تقع بين الحين والآخر ضحية للكوارث. فهي، في النهاية، أشياء مادية هشة. مثلا أتلفت الفيضانات التي اجتاحت فلورنسا في العام 1966 قرابة مليوني كتاب، كان العديد منها مخطوطات نادرة وثمينة. وفي العام 1988 التهمت نيران مدمرة زهاء 6.3 مليون كتاب في مكتبة أكاديمية العلوم في لينينغراد. ورغم أن مثل هذه الكوارث تصيبنا بالحزن وتخلف في نفوسنا إحساسا بالخسارة، فإن استجابتنا لدمار الكتب من جراء الكوارث الطبيعية تختلف عن استجابتنا لتدميرها المتعمد. فغالبا ما يكون لقوة العامل الإنساني في حالة الكوارث الطبيعية دور ثانوي، كما أن الأضرار التي تلحق بالكنوز الثقافية في هذه الحالة لا تثير أسئلة بشأن النسق الأساسي للمجتمع. لكن الحال تختلف اختلافا كليا عندما تنهب الكتب، وتقصف المكتبات، وتحرق بطريقة منهجية؛ إذ نكون هنا بصدد هجمة متعمدة ومدروسة تستهدف ثقافة جماعة ما، وينطلق رد فعل العالم أجمع من إحساس بأن الثقافة الإنسانية بأسرها قد تعرضت للاعتداء.
تستهل ربيكا كتابها بهذين السؤالين: ما الفارق حقا بين الذين تفجعهم كارثة تدمير الكتب والمكتبات والذين يلقون بالكتب طواعية، بل وبابتهاج، في قلب النيران؟ وكيف تنسجم مُثل التقدم الإنساني مع العنف والتدمير واسع النطاق للثقافة اللذين ميزا القرن العشرين؟ وتضيف "كنت أنشد بصياغة هذين السؤالين معالجة ما بدا لي أنه فقر في تحليل حوادث تدمير الكتب والمكتبات. إذ تصف روايات الشهود، التي غالبا ما تأتي مشحونة بالحزن والذهول، الدمار الذي حل بالكتب، ثم تعزو هذا العنف الذي هو انتهاك لشيء يعد نافعا في جوهره إلى بربرية كامنة وشر ذي طبيعة خاصة. وهذا منحى مغر غير أنه يفتقر إلى القدرة التفسيرية؛ إذ يخفق في الإمساك بعاملين مهمين هما: الطبيعة السياسية للسجلات المكتوبة، واتباع مثل هذه الأعمال التدميرية نمطا مشتركا. إن حملات تدمير الكتب بعيدة كل البعد عن أن تكون مجرد شر محض، فهي عمليات موجهة نحو هدف مرسوم وخطط مسوغة بعناية في إطار الصراعات التي اندلعت بين رؤى متعارضة للعالم في القرن الماضي. ففي سعيها نحو بناء يوتوبيا أرضية انتهكت الأنظمة المتطرفة كل الحدود المتخيلة؛ إذ تحولت منظوماتها العقائدية إلى أيديولوجيات راديكالية".
وتوضح "من قلب الفوضى التي نجمت عن عدوان الأنظمة المتطرفة برزت إلى الوجود الإبادة الجماعية والإبادة الإثنية، وهما ظاهرتان يمكن إدراكهما وردهما بوضوح إلى الأفكار. أما النمط الثالث الذي أقترحه، وهو إبادة الكتب، فيقع داخل هذا الإطار النظري ذاته. ويذهب قاموس أكسفورد في تعريفه 'إبادة الكتب' إلى وصفها بأنها مصطلح نادر يشير من دون لبس إلى تدمير الكتاب. وهو مصطلح يقرن بين الكتاب والتدمير 'مثلما هي الحال في كلمة قتل/تدمير/إهلاك الإنسان'، ويبرز أصل المصطلح الرابطة بينه وبين الإبادة الجماعية والإبادة الإثنية".
وتلفت ربيكا إلى أنها اختارت مصطلح "إبادة الكتب" للإشارة تحديدا إلى التدمير واسع النطاق للكتب والمكتبات برعاية الأنظمة السياسية في القرن العشرين، أي تلك الخطط المدروسة التي حيكت بهدف تحقيق أهداف أيديولوجية على المديين القريب والبعيد؛ فإبادة الكتب في ضوء ذلك نمط ثانوي قابل للتعين أو ظاهرة ثانوية يمكن إدراكها، تحدث داخل إطار الإبادة الجماعية والإبادة الإثنية. ومثل أنماط الانتهاكات الاجتماعية الثقافية الأخرى التي ترتكب في أثناء الحرب أو الاضطرابات الأهلية، ظلت إبادة الكتب غير مرئية إلى حد بعيد، في وقت أتاحت فيه أشكال التقدم التكنولوجي والقيادة المركزية والأيديولوجيات المتطرفة والعقليات الحديثة المحفزة لشن الحرب لهذا النمط أن يصبح عدوانا منهجيا. وبسبب العواقب الاجتماعية لإبادة الكتب تكتسب محاولة سبر ديناميتها أهمية خاصة.
وتؤكد نوث أن تدمير الكتب والمكتبات آلية يسعى عن طريقها نظام سياسي ما، وأتباعه الواقعون تحت تأثير إغراء عاطفي لذاكرة جمعية مشوهة، لإضفاء شرعية على هيمنتهم على أقليات متنافسة أو تأكيد مزاعم بأحقيتهم في إقليم أو موارد. وفي الوقت الذي يسعى فيه المتطرفون إلى ترسيخ تلك السجلات المكتوبة التي تدعم مزاعمهم، فإنهم قد يسعون أيضا لتدمير أي سجلات ومدونات يمكن أن تشكل تهديدا لموقفهم.
حاول الصرب، على سبيل المثال، محو كل الأدلة التي تثبت الوجود الإسلامي والكرواتي الممتد لقرون في الأراضي المتنازع عليها. وقد فعلوا هذا عن طريق تدمير الكنائس والأديرة والمساجد والمدارس، وأي مؤسسة تحوز توثيقا مطبوعا، بما في ذلك سجلات المواليد ووثائق ملكية الأرض ومواد تاريخية. وعلى النهج نفسه، سعى النازيون لاجتثاث اليهود تماما ودمروا الآلاف من النصوص، وإن حفظوا كثيرا من مكتبات اليهود المصادرة لاستخدامها في مؤسسات مخصصة لحل المسألة اليهودية، فيما يمكن أن يوصف بأنه تحول لمصير هذه المكتبات.
ولعل صون النازيين لنصوص اليهود "بينما في الوقت ذاته، أزهقت أرواحهم" هو بمنزلة تقدير غير مقصود ليس للكتب وحدها بوصفها مستودعات قيمة، بل أيضا لأهمية هذه الجماعة الثقافية بوصفها موضوع دراسة".
وترى ربيكا أنه في ظل الأنظمة السياسية الثورية والقومية المتطرفة، ينظر إلى المكتبات أيضا نظرة تقدير بوصفها مؤسسات تضفي الشرعية على السلطة الحاكمة عن طريق دعم التماسك الاجتماعي وغرس المعتقدات والقيم القومية، لكن في هذه الحالات يخضع نشر المعلومات إلى السيطرة؛ َفالكتب يجب أن تكون قومية أيديولوجيا، أما الخدمات فتحشد وتوجه بصورة رئيسة نحو تحقيق أهداف أيديولوجية.
وغالبا ما تكون مساعي تعلم القراءة والكتابة مكثفة، ويلقى الناس التشجيع للمشاركة بأسئلة تتناول أسس النظام الاجتماعي ذاتها، لكن هدف هذه الجهود التعليمية أيضا ليس عملية صنع قرار مستقلة بل هيمنة أيديولوجيا الحكومة وتشكيل مجتمع يمتثل لتصورات الحكومة، مثلا نشرت المكتبات في روسيا الشيوعية الفلسفة الماركسية اللينينية وروجت َأخبار الحزب الشيوعي ودعايته الموجهة سعيا وراء تفريخ اشتراكيين أصلح. وفي ألمانيا النازية طهّرت المكتبات من المواد المسيئة "لاسيما تلك التي تروج للنزعة الإنسية والديمقراطية"، ثم أتخمت بمواد وكتب تعبر عن وجهات النظر الاشتراكية القومية والعنصرية. انصب تركيز المكتبات في كلا النظامين السياسيين على الغايات اليوتوبية للدولة، لا التنمية الفكرية والشخصية للفرد.
تشير ربيكا إلى أن تدمير مكتبة أو منظومة مكتبات كاملة قد ينطوي على رغبة المعتدي في النيل من مكانة العدو وحيوية حضارته لاسيما إذا كان الدافع قوميا متطرفا أو إمبرياليا أو عنصريا. فالقوة الدافعة الواعية أو غير الواعية للإقدام على هذا الفعل هي تقويض الاستقلال الفكري والأدبي للعدو، وإضعاف هويته الثقافية، وتدمير كتبه ومكتباته، أي الشهود على التقدم الثقافي لجماعة أو أمة. فعندما تدمر مكتبة لا يضيع الإرث فقط، بل تتكبد الجماعة التي تتماهى مع المكتبة انتكاس فخرها وكبريائها أيضا.
فعندما أحرق المبنى التاريخي لمكتبة البوسنة الوطنية ومجموعات الكتب الأثرية فيها في العام 1992 صدم مواطنو البوسنة المحاصرون صدمة هائلة، لاسيما في سراييفو. ويرجع تاريخ تأسيس هذه المكتبة إلى العام 1945، في مبنى يعود إلى عصر الإمبراطورية النمساوية – المجرية، وكان المبنى في ذاته رمزا لسراييفو وفخرا لهم جميعا. فالمكتبة مستودع معلومات وميدان أنشطة، وهي بمنزلة نسيج ضام بين الحاضر والمستقبل. لذا فمهما تكن الهوية المحددة لجماعة ما، سواء كانت أمة أو عرقا أو جماعة دينية أو سياسية، فإن تدمير مكتباتها يعوق التطور الثقافي للجماعة ككل، ويحط من طبيعة الحياة ويقوض احترام الذات في أوساط الجماعة. فتدمير المكتبات يهدد أيضا مستقبل الجماعة على العديد من المستويات.
وتشدد ربيكا على أن الأنظمة السياسية المتطرفة غالبا ما تسعى لمحو هوية المعارض المهزوم وسيادته وفرض سيطرتها على جميع موارده. وتدمير المؤسسات الفكرية والثقافية للعدو وسيلة من وسائل كسر إرادة المقاومة لديه والقضاء على المنافسة وإبطال التهديد الذي قد تشكله عقائد الأمة الأخرى وقيمها على عقائد الذات وقيمها.
وهكذا دمر العراقيون المكتبات الكويتية في إطار خطة لاختزال الكويت إلى مستعمرة مستضعفة. ودمر الصينيون مكتبات التبت لأن هذه المؤسسات دعمت هوية تبتية مستقلة قائمة على البوذية، وهي عقيدة مناهضة للتحول الاشتراكي. ودمر الصرب مكتبات المسلمين بسبب الضرورة المتصورة لتنفيذ تطهير إثني. وعندما تكون غاية المعركة محو ثقافة ما "في مقابل الرغبة الخالصة في الإطاحة بنظام سياسي"، يصاحب غزو الأراضي وإخضاع سكانها تدمير للمكتبات وأي مؤسسات أخرى تساند الذاكرة أو تضفي شرعية على هويات قديمة"، ويسفر مثل هذا الغزو عن الحط من قيمة أمم وثقافات بأكملها.
وتضيف بدأ توظيف التدمير العمدي للمكتبات والموارد الثقافية الأخرى بوصفه واحدة من استراتيجيات الحرب في القرن العشرين في أثناء الحرب العالمية الأولى، عندما محا الألمان مكتبة الجامعة في لوفين ببلجيكا التي عُمرت قرونا. وعلى مدى ستة أيام من أعمال الحرق وأخذ الرهائن والنهب والإعدام، دمرت القوات الألمانية المدينة القروسطية ومكتبة تضم 230 ألف مجلد بما فيها مجموعة ضمت 750 مخطوطا قروسطيا وأكثر من ألف كتاب مطبوع قبل العام 1501. وفي العام 1943 سكبت القوات الألمانية الغازولين بطريقة ممنهجة في كل غرفة من غرف مكتبة الجمعية الملكية في نابولي، وأشعلت النيران فيها بإلقاء مقذوفات يدوية عليها؛ انتقاما لمقتل جندي. دمّر زهاء 200 ألف كتاب ومخطوط، بما فيها بعض أثمن كنوز التاريخ الإيطالي.
وتلاحظ ربيكا نوث أن الزعماء المتطرفين الذين يحوزون سلطة غير محدودة في دولهم يدبرون حملات إبادة الكتب ويروجون أفكارا متطرفة ويسوغون للعنف في الداخل والخارج، باعتباره ضرورة للوصول إلى غايات أيديولوجية. أما الظروف التي تفضي إلى صعود أنظمة سياسية ترتكب إبادات الكتب فهي نتاج عمليات تنشأ من ميول سيكولوجية داخل الجماعة، تكون متأصلة في نزوعها الثقافي وتنشط جزئيا من جراء ظروف حياتية عسيرة أو أوقات عصيبة. وتكمن الجذور السيكولوجية والثقافية للقتل الجماعي "العنف السياسي" في أنماط الاستجابة للتفسخ الاجتماعي الذي ينجم عن أحد أمرين أو كليهما: الحرب والاضطراب الناجم عن التحول السريع نحو التحضر والعلمنة والكساد الاقتصادي. هذه المجموعة من العوامل ذاتها التي تتصل أيضا بالعنف الذي يستهدف الثقافة، وهو ناتج نهائي لعملية يحركها الإحباط.
محمد الحمامصي – العرب اللندنية


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)