الجزائر - A la une

أيها العقائديون.. "احذروا السقوط في فخ فرق الإعدام الدائري"



أيها العقائديون..
منذ أواسط الثمانينيات، أي منذ أن بدأت أعي كنه الأحداث وخلفيات التحولات وطبيعة الأفكار التغييرية، تعرفت على دعاة التغيير من كل نوع واتجاه من:الوطنيين والقوميين والماركسيين والليبراليين والإسلاميين، بكل تفرعاتهم وفسفسائهم الداخلية الخاصة بكل منها. كما تعرفت كأستاذ- باحث في العلوم السياسية أيضا على اتجاهات التغيير المختلفة في عالمنا من خلال تدريسي لمادة: تاريخ الفكر السياسي الحديث والمعاصر. واليوم، أيضا أعايش مع المعاصرين أمثالي حركات وجماعات التغيير في منطقتنا وفي بلادنا وفي المنطقة العربية الإسلامية، خاصة خلال ما يمسى دعائيا "الربيع العربي" أو "الربيع الإسلامي"، كما تابعت فئة من تلك الحركات والمنظمات في بحثي لنيل الدكتوراه وهي تنافح عن مشاريعها المحلية والوطنية والكوكبية، حيث رفع بعضها شعار "لا بديل" عن الليبيرالية، بينما رفع بعضها الآخر شعار "عالم آخر ممكن". وتبين لنا أن الإثنين يتعاطون الفكر الأحادي والنظر إلى العالم بلون واحد لا بألوانه المختلفة.
وبحكم تلك المعرفة الميدانية والعلمية، والمعايشة المعاصرة، وجدت - من خلال اعمال التأمل الاستقرائي والمنهجية المقارنة - أن جميع المنتمين إلى الاتجاهات التغييرية العقائدية الدينية واللادينية في كل العالم قديما وحديثا، سقطت - أو يمكن أن تسقط - في فخ بناء "فرق الإعدام الدائري".
ولكن في البداية نتساءل: من هم العقائديون؟ وما هي خصائصهم المشتركة؟ وما هي ميزاتهم ومساوئهم؟ وما هو "فخ فرق الإعدام الدائري"؟ وكيف يمكن التوقي من السقوط في دوامته؟ ومنه تلافي تعطيل قطار الحياة وإرهاب الناس وإشاعة الفوضى، بدعوى السعي للتغيير نحو الأفضل والأتقى والأحسن والأصلح والأجود، وغيرها من الأحلام المشروعة واليوطوبيات الحالمة.
برغم التسليم بأننا كلنا ينطلق من موقع أو إدارك عقائدي معين للوجود والحياة والمجتمع والنفس ويتصرف على منواه، مع فوارق في كيفية طريقة التعاطي مع تلك العقائد، ونحن نحتك بالواقع بكل تعقيداته وروابطه وموازينه ومواريثه.
أقصد بالعقائديين: تلك الفئة من النخب المحلية والوطنية والكوكبية، التي تنطلق في رؤيتها ومشروعها لتغيير النفس والمجتمع والوطن والدولة والاقتصاد والعالم من منظور فكري أو أيديولوجي أو مذهبي معين. ففي كل العصور، وخاصة في عصرنا تتناسل الفرق والجماعات والاتجاهات والأيديولوجيات التي تنشد تغيير أحوال الناس سواء من أعلى أو أسفل، من الداخل أو من الخارج، عبر تغيير الفرد أو عبر تغيير الجماعة، عبر استخدام الأساليب الإصلاحية والشرعية الانتخابية الديمقراطية أو عبر استخدام أساليب الانقلاب والثورة الدموية أو السلمية.
وغالبا ما يتميز "العقائديون" بقدر من التعصب والاستماتة في سبيل نشر وفرض الفكرة التغييرية على غيرهم. كما يحجبون على الأنصار والأتباع كل نقيصة فيهم أو في فكرتهم وكل فضيلة في غيرهم وفي غير فكرتهم. كما يتوسلون بنسبة تقل أو تزيد من الخطاب الديماغوجي والشعبوي والمثالي الحالم، تتوسل من خلاله حشد الناس وتحبيب الفكرة والمشروع التغييري إلى الأتباع والأنصار والمواطنين عموما. كما يضفون على فكرتهم وربما أشخاصهم وتنظيماتهم ألوانا من القداسة والعصمة والواحدية والمطلقية. ويشتد الخطب في هذا المنحى خاصة عند "العقائدين" الذين ينطلقون من الفكرة الدينية والوطنية والقومية، فيضفون على تدينهم وتمذهبهم ووطنيتهم صفاتهم النفسية والمجتمعية والمصالحية الضيقة، فيستحيلون أخيارا بين أشرار ووطنيين بين خونة وأصوليين بين منحرفين وأصلاء بين دخلاء ومعصومين بين خطائين وقديسين بين مدنسين، وملائكة بين شياطين...
... ومع هذا المنحى تستحيل الحياة داخل تنظيماتهم فضلا عن مجتمعاتهم التي ينشدون تغييرها إلى الأحسن، لأنهم لا يفرقون بين المثال والواقع وبين ذواتهم وبين المجتمع، ولا يعرفون كيف يحققون الخلطة المناسبة لتغيير الواقع المركب والمعقد، من خلال معرفة كيفية تفاعل المبادئ والمثل مع الوقائع، الأصول مع الفروع، الثوابت مع المتغيرات، الداخل مع الخارج، القديم مع الجديد، السلف مع الخلف، المحكم مع المتشابه، القريب مع البعيد، المتماثل مع المتناقض والمختلف، المعقول مع اللامعقول، المدرك مع غير المدرك، الواحد مع المتعدد. ومنه التعرف على مآلات ونتائج وتداعيات المواقف والقرارات التي يتخذونها.
ولذلك نجد أن من عادة "العقائديين" سقوطهم في فخاخ كثيرة كفخ النرجسيات والقداسات والانقسامات، ومنها "فخ فرق الإعدام الدائري". فالمشاهد والملاحظ والمطلع على تاريخ التنظيمات والجماعات والحركات التغييرية قديما وحديثا في الجهات الأربع للكوكب يكتشف أن مرضها العضال المميت غالبا ما يتأتى من السقوط في هذا الفخ المميت. فما المقصود ب "فرق الإعدام الدائري"؟ وكيف تنشأ بين العقائديين؟
نقصد ب "فرق الإعدام الدائري": دخول العقائديين في أي جماعة أو اتجاه أو جبهة تحمل فكرة تغييرية في دوامة الإعدام المتبادل للأنصار والأتباع بعد فترة من ظهورها، ألم يقل "إن الثورة تأكل أبناءها"، وذلك عندما تتصارع حول أحقية ووجاهة تفسيرها وتأويلها لجوهر نصوصها المرجعية وحول شرعية قيادتها الرشيدة للمشروع التغييري، كتلك الخلافات والانقسامات التي عرفتها وتعرفها الحركات التقدمية الماركسية بين الأمميين والوطنيين السياديين وبين الأصوليين والتحريفيين وبين أنصار الثورة العنيفة المستمرة وبين أنصار الثورة في إصلاح. وبين المعتدلين والمتشددين وبين أنصار الناهضة الشاملة لكل مكونات النظام الرأسمالي وأنصار التغيير المتدرج والديمقراطي، وكتلك التي عرفتها وتعرفها الحركات الوطنية والقومية بين أنصار الحل السلمي والتفاوضي مع العدو وأنصار الحل العنفي والكفاح المسلح والعمل المباشر وبين أنصار الوحدة الشاملة السريعة وبين أنصار الوحدة المرحلية، وكتلك الإعدامات الدائرية بين أتباع الدين الواحد، التي عرفتها وتعرفها الحركات الدينية عموما والحركات الدينية الإسلامية في العصور القديمة والوسيطة والمعاصرة كتلك التي حدثت بين من سُمُّوا بالنواصب والروافض والخوارج والمعطلة والجبرية والجهمية والمعتزلة والأشعرية والماتردية، وبين من سُمُّوا بالسنيين والمتشيعين والعلويين والإباضيين وأهل الرأي وأهل الحديث وأهل القرآن وأهل السنة والجماعة...، والأصوليين العلمانيين وبين الأصوليين المتدينين، وبين الخلف والسلف، وبين السلفيين والسلفيين وبين الإخوان والإخوان وبين التبليغيين والتبلغيين وبين الصوفيين والصوفيين، وبين الحاكميين الجهاديين والتحكيميين السلميين، وبين أنصار الحوار العلماني-الإسلامي وأنصار الصراع العلماني-الإسلامي، وبين أنصار المفاصلة الشاملة مع الغرب وأنصار الحوار والتعاطي مع الغرب لا ككتلة واحدة صماء...الخ. هكذا تتناسل الاتجاهات والجماعات والمواقف في نفس المرجعية الفكرية الواحدة، في فسيفساء لا متناهية، قديما وحديثا.
وغالبا ما كانت مثل تلك النقاشات والجدالات النظرية المثالية المعتادة في جميع الحركات التغييرية قديما وحديثا مضيعة كاملة للوقت، بل إنها تتفاقم غالبا إلى خلافات وانقسامات حادة بين رفاق أو إخوة "النضال والجهاد والكفاح والحركة والجماعة والحزب والتنظيم" حول تحديد الأهداف الاستراتيجية والوسائل التكتيكية والخصوم الفعليين والخصوم الوهميين والخصوم الألداء والخصوم المنافسين النزهاء، ممارسين ما يسميه سيغموند فرويد: "نرجسية الاختلافات الصغيرة" أو ما تسميه لوري والاش الناشطة في "جمعية المواطن العام" الأمريكية، المناهضة للعولمة الأخيرة ب: "فرق الإعدام الدائرية"، التي تصدر عن جملة أسباب لابد من التعرف اللبيب عليها، لتلافيها في أوساطنا المجتمعية والسياسية المحلية والوطنية...
1)- الخلافات حول تفسير المبادئ المؤسسة الأولى وعدم القدرة على تجاوز التناقضات الحادة الطويلة حول أمور غامضة مثل النقاشات المعهودة بين: أنصار أولوية التغيير بالوسائل الثورية الجذرية، وأنصار أولوية التغيير بالوسائل الإصلاحية التدريجية، أي ما إذا كان الأجدى أن يُطاح بالنظام القديم القائم أو بالمشروع أو بالفكرة الخصم أو العدو، أو ما إذا كان ينبغي اتخاذ مواقف وسياسات إصلاحية وتسويات مرحلية معه وصولا إلى مرحلة الحسم النهائي معه، و"التغيير الكامل".
2)- الاختلاف الذي يتحول إلى خلافات وانقسامات واستقطابات -وربما احترابات بين المؤسسين وبين الأتباع- حول أولوية الاتفاق على الصورة المثلى للمشروع التغييري وأولوية الاتفاق على الصورة الواقعية الممكنة المستقبلية للمشروع التغييري. إذ سياسة الواقع هي التلاعب بمتغيرات القوة، أو هي فن الممكن. وغالبا ما يتحرك الحرفيون المثاليون من أصحاب العقائد والملل والنحل والمذاهب والجماعات والأيديولوجيات والاتجاهات التغييرية وفق منطق "ما ينبغي أن يكون"، بينما يتحرك الواقعيون البراغماتيون من تلك الاتجاهات التغييرية وفق منطق "ما هو كائن" ووفق منطق "كيف نغير الواقع الآن" لا وفق منطق "من منا يملك أفضل نظرة مثالية للواقع". فالأوائل يركزون على أولوية تحقيق انتصارات نظرية غير عملية ومماحكات تصورية حالمة لا نهائية، حول الصورة المثلى للسلوك الإنساني والمشروع التغييري، بينما يركز الصنف الثاني على كيفيات سياسة الواقع وضرورات المرحلة الانتقالية ومراعاة موازين القوى وفقه الأولويات والموازنات ومراعاة المصلحة.
3)- ضعف منسوب الممارسة الديمقراطية داخل الحركات والتنظيمات المنظمات والأحزاب التي تنشد التغيير، وتركز القيادة في يد القياديين الديماغوجيين والنرجسيين والراديكاليين، واستبعاد القيادة بالأساليب العقلانية، المؤسسية، الوسطية، العقلانية، الإيثارية، التشاركية.
4)- عدم إدراك الفروق في التفكير والسلوك بين المقامات الثلاث: مقام العلم والفقه والمعرفة ومقام السياسة وتدبير شؤون الناس والمدينة والدولة ومقام الدعوة والتخليق وتحبيب الخير للناس.
5)- عدم إدراك الفروق بين مرحلة التبشير والدعاية والدعوة إلى الفكرة في بدايات العمل وخلال الحملات الانتخابية وبين مرحلة الممارسة الميدانية والحكم والتصدي لإدارة شؤون الناس في البلدية أو الحزب أو الحكومة.
6)- التغافل عن حقيقة عالمية قديمة، أن العقائديين مهما كانوا مخلصين وأصلاء ونزهاء وشجعان، هم في البداية والنهاية، بشر تحركهم نرجسياتهم ومصالحهم الشخصية والفئوية والمناطقية ونزعاتهم المزاجية وعقدهم النفسية وانتماءاتهم التحزبية والاجتماعية الضيقة وقيود موازين القوى والمكان والزمان...
7)- النظر إلى الفكر والواقع اللذان شأنهما وطبيعتهما التنوع والتوالد والاختلاف واللاتجانس، بنظرة اختزالية، تبسيطية، أحادية، جامدة، ومنه السقوط في شراك الثنائيات المتقابلة المتصاركة المتشاكسة المتعادية، وعدم القدرة أو عدم الجرأة أو عدم الرغبة في النزول العقلاني، المنهجي، التدافعي، إلى ساحات المجتمعات والأفكار بكل تنوعاتها وألوانها وأطروحاتها المختلفة المتصارعة في تكامل والمتعاونة في تشاكس والمتداخلة في استقلال...
1)- تلافي مزالق الخطاب الديماغوجية المسرفة في العاطفية ودغدغات المشاعر، والتوسل بدلا من ذلك إلى رضا الناس، بالخطاب العقلاني، الوسطي، المتوازن، الأخلاقي، الشفاف، العملي، الموضوعي، المستقبلي، الإيجابي، المتفائل في غير أوهام، والمؤثر حضاريا وإنسانيا.
2)- الاستعداد للانتقال بالنفس والتنظيم والناس من مرحلة الفكرة إلى مرحلة التطبيق بتوسل الأدوات المفضية إلى النجاح في التطبيق، ممثلة في التخطيط العقلاني والآليات الديمقراطية والتدرج في التغيير، وخاصة مراعاة ضرورات المرحلة الانتقالية: من مرحلة الفوضى إلى مرحلة النظام ومن مرحلة الفساد إلى مرحلة الصلاح ومن مرحلة الاستبداد إلى مرحلة الديمقراطية ومن مرحلة الأزمة إلى مرحلة الانفراج والازدهار.
3)- تلافي تركز سلطة القرار في يد شخص أو جماعة مهما كان أو كانت سوية مثالية صالحة، فالبشر مظنة للضعف والانحراف إزاء إغراءات المكانة والمنصب والنجاح والجماهيرية والانقلاب على المبادئ المؤسسة وعلى الأطر المؤسسية والشرعية الانتخابية.
4)- تبني خطاب وأدوات مرنة في الانتقال من مرحلة الدعاية الانتخابية والتعريف بالمشروع والدعوة للفكرة الجديدة، إلى مرحلة الممارسة الميدانية التي تتطلب إدارة عملية التغيير من خلال الأفكار والفتاوى والحلول الوسطية، بل والعمل مع الاتجاهات والأحزاب المنتمية إلى الوسط بين الراديكاليين يمنة ويسرة.
5)- النظرة والممارسة للأمور الواقعية برؤية وسطية متعدلة متوزانة شاملة، تراعي فيهما المقامات والمرحليات والتوازنات بين المثاليات والواقعيات، فلا تقدس فيما المثل حرفيا، لأنها في النهاية ستطبق في عالم البشر النسبي، بتنزيلها إلى الواقع المركب، بكل إكراهاته ونسبياته وقيوده وفرصه، ولا يركن فيهما إلى الواقع بدعوى الواقعية فيحدث الجمود على الموجود وتفتقد فرص تجديده بالتسامي والرقي إلى فضاءات كمال المثل والقيم العليا. ف "عالم القيم والمثل هو عالم البراءة والطهر والواقع هو مملكة الضرورة، حيث الأمزجة المختلفة والآراء المتضادة والمصالح المتصارعة والمعادلات الصعبة"، يقول الدكتور عبد الكريم بكار، في كتابه "تجديد الخطاب الإسلامي، الشكل والسمات".
6)- تفكيك الواقع المجتمعي المركب من عدة فواعل وأطرافه وإرادات متحركة وأبعاد وعوامل مفسرة، لفهمه وحسن التعامل معه وتغييره نحو الأفضل، بدل استمراء واستسهال التعميم والاختزال والتبسيط والتهجم التبرم، ومنه إسقاط النفس والآخرين في أوهام السهولة والإحباط أو ارتكاب مغامرات وفنطازيات انتحارية بالنفس وبالآخرين، والمزايدة على الآخرين بالإخلاص والوطنية والديمقرطية والتدين...
7)- النظر إلى الفكر والواقع باعتبارهما ظاهراتنا متداخلتان متعاضدتان متكاملاتان، حتى وهما يتصارعان. بل والنظر إلى الأفكار المختلفة حتى تلك المستندة إلى الدين الإلهي المقدس من زاوايا المشتركات والنسبيات والعقلانيات البشرية، لا المعصوميات والمثاليات والواحديات، ومنه ممارسة فضيلة التسامح مع النفس ومع الآخرين ومع العالم. وعدم التبرم من حرية الاعتقاد والتدين والتفكر ومن توالد الاختلاف الفكرية التي هو صنو بشريتنا ومصدر ثرائها ومرحمويتها وضرورة من ضرورات استخلافها الإلهي، وتلافي السقوط في عملية إنتاج وإعادة إنتاج "فرق الإعدام الدائري".
أستاذ. باحث في العلوم السياسية/ قاسم حجاج


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)