الجزائر


أوروبا
بقلم: مالك التريكي*عندما اتصلت الإذاعة الفرنسية بقسّ أبرشية سانت ايتيان دو روفراي الذي كان في بولندا للمشاركة في يوم الشبيبة العالمي الذي حضره البابا فرانسيس قال إن الأب جاك هاميل الذي قتل الثلاثاء غيلة قبيل إنهاء موعظته هو شيخ جليل تجاوز الخامسة والثمانين من العمر ولكنه صمم على الاستمرار في خدمة الكنيسة لأنه من أولئك الرهبان الذين يصابرون ويثابرون حتى يقضي الله أمره. أما عن الإرهابيين اللذين قتلا هذا الشيخ العابد فإنه قال دون تردد إن الموقف يقضي بالدعاء لهما والصلاة من أجلهما!موقف بعيد عن فهم معظم البشر! صحيح أن الجميع يعرف أن العفو والصفح وعدم مقابلة الإساءة بالإساءة هي قيم من صميم الديانة المسيحية ولكن مثل هذا الموقف الأخلاقي المتسامي يظل بعيدا عن فهم معظم البشر. فهل يستطيع بعض منا نحن المسلمين أن يرتقي إلى درجة الصفح والعفو وتجاوز الرغبة الطبيعية في القصاص أو الانتقام؟ليس هذا سؤالي ولكنه سؤال طرحه محام مسلم من أصل آسيوي في محاضرة ألقاها قبل شهور في المسجد المركزي في لندن. قدم المحاضر كثيرا من الأدلة على أن العفو عند المقدرة هو خير للمظلوم من القصاص أو الانتقام واستشهد بأبحاث أجريت في أمريكا وأوروبا تؤكد أن القصاص لا يريح النفس ولا يحقق لها من الطمأنينة ما يحققه العفو والتجاوز. وكان مما ذكره أيضا أن كثيرا من سجناء الحق العام الذين يزورهم في سجون بريطانيا هم من المسلمين!وصحيح أيضا أن دين الإسلام يشجع النفس المؤمنة بربها على الامتناع عن ممارسة الحق في القصاص ويحضها على العفو والصفح عن الظالم والمسيء ترغيبا لها في ما لدى الله سبحانه من الثواب العظيم. وهنالك في التراث الإسلامي مصنفات تؤكد الاهتمام بهذا المقصد مثل كتاب (الصفح والاعتذار) للرقام البصري تلميذ ابن دريد وكتاب (التذكرة في قبول المعذرة وفي ما جاء في العفو عند المقدرة) لمحمد بن عبد الرحيم بن محمد بن أبي العيش الأنصاري التلمساني. ولكن السؤال يبقى مطروحا علينا نحن عامة المسلمين: هل يستطيع بعض منا أن يرتقي إلى درجة الصفح والعفو وتجاوز الرغبة الطبيعية في القصاص أو الانتقام خصوصا بعدما تعرضت له أوطاننا العربية والإسلامية في الأعوام الأخيرة من عدوان تلو عدوان فرّخ إرهابا تلو إرهاب.لقد خسرنا معركة (الصورة) الإعلامية منذ زمن بعيد. وصار من الصعب بمكان محاولة إفهام (الآخر) الحضاري بأن لا علاقة إطلاقا بين عموم المسلمين وبين عصابة المجرمين الذين يرفعون الرايات السود ويكبّرون ويهللون وهم يذبّحون الأبرياء.ولعل من بين الأسباب الكثيرة لإصرار داعش على تقتيل المسيحيين العرب أو تهجيرهم من بلادهم أن ديانة يتلخص جوهرها في المحبة والدعاء للمجرمين والمذنبين بالرحمة والمغفرة الربانية إنما تمثل النقيض التام لهوس القتل الجنوني المستحوذ على مجرمي هذه العصابة الموغلة في ظلام الغريزة.ولهذا فقد حق لرئيس (تنسيقية مسيحيي الشرق في خطر) باتريك كرم أن يذكّر بأن التنسيقية دأبت منذ إنشائها عام 2013 على التحذير بأن الجرائم المرتكبة ضد مسيحيي المشرق قد تمتد عدواها إلى المجتمعات الغربية وأن مضاعفات سقوط المشرق في هاوية الهمجية قد دفع بالمجتمعات الغربية في دوامة خطرة قد تقود إلى حرب أهلية.ويعلل باتريك كرم الفشل في معالجة الخطر الإرهابي في فرنسا بضعف الاستراتيجية الأمنية التي ترمي إلى الحد من الخطر لا إلى استئصاله حيث أن السلطات تعرف أن العمليات الإرهابية لن تتوقف وتتعامل معها بالتالي على أنها قدر لا مناص منه. ولكنه يرى أن تجنب وقوع مواجهات واعتداءات تستهدف المسلمين يقتضي التعجيل باتخاذ إجراءات جذرية من أجل استباق هزائم داعش العسكرية التي سيعقبها عودة كثير من الإرهابيين من سوريا والعراق ممن يمثل تكوينهم العسكري مشكلة أمنية بالغة الخطورة بالنسبة لبلدانهم الأوروبية الأصلية.ولكن هل يمكن فعلا تجنب وقوع حرب أهلية في فرنسا؟ لقد تكاثرت العوامل المؤاتية لصعود الفاشية إلى الحكم في بعض البلاد الأوروبية وتضافرت. هذا حتى قبل أن تقتحم المشهد جرائم الإرهاب الداعشي التي أصبحت تقدم للفاشية الأوروبية أجلّ الخدمات بدءا بتسهيل إشاعة الوهم الشعبي في أوروبا بأن المسلمين هم العدو.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)