الجزائر

أمحمد إسياخم صاحب الذراع المبتورة في أكبر معرض له بالجزائر من فلسفة «الحقد المقدس» خرجت أجمل لوحاته



أمحمد إسياخم صاحب الذراع المبتورة في أكبر معرض له بالجزائر من فلسفة «الحقد المقدس» خرجت أجمل لوحاته
غير بعيد عن ساحة الأمير عبد القادر باتجاه مبنى «المسرح الوطني» الجزائري (الأوبرا)، وفي شارع العربي بن مهيدي يستضيف «المتحف الجزائري للفنون المعاصرة» المعروف اختصارا بـ«الماما» وعلى مدى شهرين كاملين أعمال أسطورة الفن التشكيلي الجزائري أمحمد إسياخم بمناسبة مرور خمسة وعشرين عاما على رحيله في شهر ديسمبر (كانون الأول) 1985.
ما يلفت الانتباه، عند قراءة تلك المجموعة الكبيرة من لوحات الفنان الراحل، التي تلخص مسيرته الفنية الكبيرة، حضور الوجوه بأشكال ووضعيات مختلفة، لكن ملامحها تبدو غائبة في الكثير من الحالات. ومن أبرز اللوحات تلك التي تحمل اسم الشاعر الروسي الكبير ماياكوفسكي الذي غادر عالمنا منتحرا قبل ثمانين سنة وترك ورقة كتب عليها عبارة «إلى الجميع.. ها أنا ذا أموت الآن، لا تتهموا أحدا، ولا تثرثروا، فالميت يكره الثرثرة». وربما وجد إسياخم نفسه قريبا جدا من عوالم ذلك الشاعر، وهو السبب الذي دفعه إلى إنجاز تلك اللوحة. ووسط العشرات من اللوحات الأصلية المتفاوتة الأشكال والألوان، يقف الزائر طويلا أمام لوحة بالأبيض والأسود هي عبارة عن «بورتريه ذاتي» للفنان نفسه. وإضافة إلى الوجه الحزين، حرص الفنان على رسم يد، قد تقرأ في شكل تعويذة معروفة في الثقافة الشعبية، كما قد تقرأ على أنها اليد الناقصة للفنان الذي بقي طيلة حياته الفنية يرسم بيد واحدة، عندما فقد الأخرى في حادث مأساوي في سن الطفولة.
ولم يكن إسياخم مجرد فنان تشكيلي، فالفتى الذي ولد سنة 1928 في قرية جناد بمنطقة القبائل، سرعان ما اضطرته الظروف للرحيل نحو الغرب الجزائري، بعيدا عن أمه التي عرفها وعمره 10 سنوات. وفي سنة 1943 تعرض لحادث مأساوي دفعه إلى الرسم، وبينما كان في الخامسة عشرة من عمره، دفعته المغامرة إلى سرقة قنبلة من أحد معسكرات جيش الاحتلال الفرنسي حينها، وعندما جاء بها إلى البيت انفجرت فقتلت شقيقتيه وأصابته إصابة خطيرة ولم يكن أمام الجراحين في المستشفى إلا بتر ذراعه اليسرى. ومن هنا بدأ يميل إلى الرسم التشكيلي وحقق بعد سنوات من ذلك أول إنجازاته عندما تمكن من العرض في صالة «أندري موريس» بفرنسا، ثم تلقى تدريبا أكاديميا في مدرسة الفنون الجميلة بباريس، وعند استقلال الجزائر التحق بمدرسة الفنون الجميلة الجزائرية أستاذا. وبالإضافة إلى الكثير من لوحاته التي تركها عند أصدقائه أو باعها بثمن زهيد، ترك الفنان أمحمد إسياخم كتابا سرديا بعنوان «35 سنة في جهنم رسام».
يقول الناقد الفني الجزائري أحمد عبد الكريم: «إن كل لوحات أمحمد إسياخم تحيلنا إلى تجربته المريرة مع القهر والدمار، ولا شك أن لوحته (ماسح الأحذية) كانت تجسيدا لطموح الجزائر المقهورة في الانعتاق، وممارسة حقها في الحياة والفرح، بينما كانت لوحاته (الأرملة) و(الصبية) تلميحا إلى حرمانه من هناءة الطفولة، ودفء العائلة، ليعيش أقصى درجات اليتم والعزلة، لذلك فقد كان تشديده كبيرا على مواضيع الأمومة، والطفولة، والمرأة بألمها وجمالها». ويضيف بخصوص التجربة المتفردة لهذا الفنان أن أعماله «صادرة عن حكمة خاصة يمكن تسميتها بفلسفة الحقد المقدس.. قد تبدو غريبة، ولكنها بالتأكيد تستند إلى مبررات موضوعية، ورؤية أصيلة. فلم تكن الممارسة الفنية عند إسياخم امتيازا أو ترفا، بل كان فعل الرسم يؤلمه، وكان يتعذب بينما كان يقوم بذلك».
ولم يكن «الحقد المقدس» مجرد نزوة عابرة في حياة الفنان أمحمد إسياخم، فهو فلسفة قائمة في ذاته، وقد نقلت عنه مجلة «الجيل» سنة 1987، وبعد وفاته بسنتين قوله: «الحقد المقدس، هو التعبير عن رفض القلوب القوية والقادرة، الكره يعني الحب، إنه الإحساس بحرارة الروح وكرمها، إنه يخفف القلق، ويصنع العدالة، إنه يجعل الإنسان أكبر من الأشياء التافهة والحقيرة». ويضيف بقوله: «لقد جعلت الحقد والعنفوان رفيقين لي، أحببت العزلة، وأحببت في العزلة كيف أكره كل ما يجرح الحق والصواب. إذا كنت أساوي شيئا اليوم، فإن ذلك تحقق لأنني وحيد، ولأنني أكره».
الفنان أمحمد إسياخم تحول إلى عقبة حقيقية أمام الكثير من الفنانين التشكيليين الجزائريين الذين خرجوا من عباءته، وما زالوا يدورون في فلكه. لا يكاد اسمه يذكر إلا إذا كان مقرونا برفيق دربه الروائي والمسرحي الشهير كاتب ياسين صاحب رواية «نجمة». ومن مساوئ الصدف أن مرض السرطان الذي قضى على إسياخم سنة 1985، لم يمهل رفيقه كاتب ياسين إلا 4 سنوات أخرى وتوفي بالداء نفسه سنة 1989. وعند وفاة إسياخم نشر كاتب شهادة حوله بعنوان «عين النسر» باللغة الفرنسية، وأنجز مؤخرا الناقد التشكيلي أحمد عبد الكريم ترجمتها العربية. ويعود كاتب ياسين إلى يد إسياخم المبتورة التي حددت مصيره الفني فيقول: «يتعلق الأمر بفهم ما كانت عليه حياته، التي كانت جحيما، بسبب القنبلة التي انفجرت بين يديه عندما كان طفلا. الناس لم يكونوا يفهمونه، لأن ما كان يبدو عنفا في نظرهم لم يكن غير رد فعل دفاعي، لأنه لم يكن يحب الإحساس بالنقص والدونية، بل كان معتزا وفخورا». لكنه يتأسف على مصير الكثير من أعماله الفنية الكبيرة، حيث يقول: «كان سخيا، إذ أهدى كثيرا من لوحاته، وأخرى باعها بأثمان مضحكة، أو فلنقل مقابل زجاجة ريكار. والآن لم يبق بالتأكيد شيء منها في بيته».
ورغم أن الكثير من تلك اللوحات ذهب إلى وجهات مختلفة، استطاع منظمو المعرض الفني أن يستعيروا تلك التحف من أصحابه، وأصبح بإمكان الجمهور الاطلاع عليها إلى نهاية شهر يناير (كانون الثاني) 2011 وأيضا على الكثير من اللوحات الأصلية المجهولة لذلك الفنان الاستثنائي، الذي يحضر بقوة من خلال بعض الأفلام التسجيلية والحوارات النادرة معه، حيث يظهر معه كاتب ياسين وآخرون.



سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)