الجزائر

ألجي... ألجيري (2)



عندما تقدمت على الرصيف، كانت واقفة بجنبي وابتسامة عريضة معلقة على شفتيها.. كان الهدوء يطغى على المكان رغم العدد الكبير من المسافرين الواقفين، والمتحركين والغارقين في أحاديث متبادلة كان يعبث بها الهدير الصامت..حدّقت فيّ جيدا، ثم سألتني إن كنت من سيدي بلعباس، قلت لها نعم، ثم انطلق بيننا الحديث، وكأننا نتعارف منذ زمن قديم، سردت لي حكايتها أو ما حدث لها مع أصدقاء من بلدتها، سافرت معهم إلى وهران، ومن ثمة إلى حمام بوحنيفية حاولوا الاعتداء عليها جنسيا.. كنت أصدقها في كل كلمة كانت تتفوه بها، سألتني إن كنت متوجها إلى وهران، أم إلى العاصمة، فأخبرتها أنني متجه إلى الجامعة الصيفية، وأنني لا أعرف جيدا العاصمة، وأخبرتها أني حديث العهد بالبكالوريا، وتدفقت في كلامي لها، عن عائلتي والحي الذي أسكن به، وأحلامي في المستقبل، نظرت إلي باندهاش واستغراب، لكن بشفقة وحنو، عندما قلت لها، أنني أحلم أن أكون كاتبا... كما رويت لها، ونحن نمتطي القطار، أول قصة حب عشتها وأنا لا أزال تلميذا في السنة الثالثة متوسط، وكيف كتبت عن هذه التجربة بعض الأشعار، والقصص التي نشرتها في صحف ومجلات وطنية، مثل "الجمهورية" و "آمال" و«الجزائرية" لكنها لم تكن تهتم بالقصص والأدب، ومع ذلك فلقد كانت مولعة بالموسيقى الغربية والأغاني الفرنسية ومنبهرة بميري ماتيو، وكلود فرانسوا، وليون فيري، وإديت بياف... كانت أصيلة بلدة العفرون.. وعندما نزلت بمحطة وادي تليلات الواقعة قرب مدينة وهران كانت الساعة تشير إلى السابعة مساءا، وكانت المحطة بمثابة محطة الترانزيت التي ينتقل منها القطار القادم من وهران إلى العاصمة... حملت معها الحقيبة، ودخلنا مقهى المحطة التي كانت تديره امرأة تتجاوز سن الخامسة والأربعين بقليل، ذات جسم ممتلئ، ترتدي زيا تقليديا، وموشمة الوجه واليدين، وذات لسان سليط وحار، تتحدث بالعربية الدارجة وبفرنسية طليقة، وكان يساعدها ابنها ذو الملامح الشبيهة بوالدته، وكان على خطاها في التحدث إلى الزبائن.. شربنا ليمونادا وتناولنا سندويشين محشوين بالفلفل الأخضر المشوي والبطاطا والبيض.. ولم أترك الفتاة العفرونية تدفع سنتيما رغم إصرارها على أن تدفع هي ثمن السندويشين.. ظن الطلبة الذين اختيروا ضمن الوفد أنني أعرفها من قبل، أو أنها إحدى قريباتي، فأغرقونا بالفاكهة والشكولاطة... وشكرناهم على ذلك كثيرا.. ورحنا طيلة وقت الانتظار نذرع الخطى على طول الرصيف ألف، بينما كنا لا نأبه بتلك العيون التي تتلصص علينا وتراقبنا.. كان ذلك اليوم، الرابع من جويلية وكانت محطة وادي تليلات غاصة بالمسافرين، وبالجنود المسرحين بمناسبة ذكرى الاستقلال... راحت صفارة القطار تعلن عن لحظة اقتراب القطار من بعيد، تحرك المسافرون بحقائبهم على الرصيف، وبدأت الأرجل تتحرك وتتسارع.. كان الليل أرخى سدوله.. وكانت السماء صاخبة كالصفحة العارية... ودون أن أدري تشبكت يدي في الفتاة العفرونية، وصعدنا بشق الأنفس إلى عربة من عربات القطار الحافل بالركاب... وجدنا أنفسنا في مكان غاص، حافل وممتلئ إلى آخر يجمع بين عربتين وسط تلك الزحمة السوداء.. روائح العرق والأجساد المتلاصقة تطغى على المكان.. بدأ القطار بالتحرك بشكل بطيء، ثم ما لبث أن استعاد تلك القوة التي كان يتمتع بها وهو منطلق من وهران إلى محطة وادي تليلات... كان جسدانا ملتصقين بشكل حميمي وقوي.. وهذا ما جعل بعض الركاب من الجنود يتركون لنا زاوية وضعنا فيها حقيبتينا وجلسنا إلى جنب بعضنا البعض عليهما... وعندما اقتربنا من محطة مدينة غليزان، اقترح علينا أحد الركاب وهو ضابط صف أن نذهبا معه للمبيت في منزل عائلته، لكننا أفهمناه أنه لا بد أن نواصل سفرنا إلى العاصمة... وعندما غادر القطار مدينة غليزان، ساد الصمت، وراحت بعض الرؤوس تتمايل وكأنها مخمورة ونشوانة من شدة التعب والوسن... وانخفضت الإضاءة، ولم نعد نسمع إلا صوت القطار الذي كان يتناهى إلى سمعنا بشكل ينطوي على وزن وإيقاع.. وكل واحد من الركاب غرق في سكونه وربما في أطيافه وأحلامه المتراقصة... كان جسد الفتاة العفرونية يزداد دفئا وحرارة كلما امتد التصاقه بجسدي... وخيل لي أنني أصغي إلى نبضات جسدها الحار، وقلبها الراقص معا... وضعت يدي على عنقها، بينما كانت تتظاهر بالتناوم.. وأنا كذلك كنت أتظاهر بالتناوم، لكن لذة ما، لذة خفية ومريحة ومنعشة، راحت تتسلل إلى أعماقي وشراييني، وتبعث فيها دفقا سحريا من الطاقة والحياة، وكذلك يدها بدأت تزحف شيئا فشيئا إلى جسدي من تحت القميص الأزرق الذي كنت أرتديه، ثم شرعت أناملها تزحف برهافة من أسفل بطني إلى صدري حيث كانت تنبت هناك بعض الشعيرات،.. وكل شيء بدأ يتحرك بقوة في أوصالي، سائل كالدم انبجس في كل مجاري جسدي.. ضممتها بقوة إلى جسدي، إلى صدري، وأحسست وكأنها بدأت ترتعش كريشة في مهب الريح وفي الوقت ذاته كنت أشعر بالخجل، وهذا ما جعل ربما كل ذلك العرق يتصبب من جسدي.. صوت القطار يتصاعد كالزئير الأسطوري المتقطع... ومن حين لآخر، كانت تتدفق بقع ضوء ساطع إلى داخل القطار... ينبعث الصفير كالنواح شاقا صدر الظلام...


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)