لا أحد يشكك، من الناحية الأدبية، في أنّ ألبير كامو، الكاتب الفرنسي الشهير (1913 1960)، كتب روائع أدبيةخالدة واستثنائية في تاريخ الأدب برمته، ومن الصعب أن يتكرر مرّة أخرى بالنظر إلى عبقريته الفذةوسرده الساحر الذي فتن القرّاء والنقادوالأدباء عبر الأوقات.كما أنّ فلسفته ظلت، إلى الآن، محل جدل راق، وموضوعا لبحوث أكاديمية متخصصة في الشأن.لم يكن ألبير كامو أديبا فحسب، بل كان ينظر إلى العالم بعينيه المختلفتين، ولولا هذه الفرادة لما كتب الطاعون والغريب وأعراس و كاليجولا وسيزيف، وبذلك العمق الاستثنائي المربك. لذا رأى بعضهم أنه كان منفصلا عن محيطه الخارجي إذ أصبح عالما مستقلا بذاته، لا رابط يربطه بما كان يحدث في الجزائر من تنكيل،ومن مجازر باسم الحضارة أحيانا، وباسم التقدم أحيانا أخر.
ومع ذلك، فقد كان ألبير كامو، الجالس في مجرّته البعيدة عن السفاسف اليومية، مثل هنري ميللر على قمة جبل الأولمب، يبصر جيدا سحر الطبيعة الجزائرية كشكل أجوف مثير، دون مضمون، لأنّ هذا المضمون يتشكّل من المعذبين في الأرض، بتعبير فرانز فانون. ولو نقله في نصوصه الجميلة لضاعت رؤيته الوجودية للإنسان والتاريخ، وهذا خيار لا يمكن مناقشته لأسباب أدبية وجماليةوفنيةوفلسفية ذات علاقة باتجاهه العبثي الذي لم يتنازل عنه أبدا. لقد اختار طريقه وكفى.
وتتعلق الزاوية الثانية بتموقع كامو، ليس إلاّ، وتحديدا بموقفه من المأساة التي كانت تحيق به، كأديب وكإنسان، وكحاصل على جائزة نوبل (1957). هل كان قادرا على أن يظل «حياديا»، ومتفرجا فاخرا لو أنّ الجرائم التي طالت الجزائريين مسّت الشعب الفرنسي والأقدام السوداء؟ ، أم أنّ إنسانيته كانت ستستيقظ للدفاع عن الحق؟ لا شيء يؤكد ذلك إن نحن انطلقنا من نصوصه العابثة، المدمرة. وهذا خيار كذلك، ولا يمكننا، من هذه الناحية، تقنين كاتب تجاوز عصره بسنين، أو ربطه بقضايا لا تعنيه، أو تبدو كذلك بالنسبة إليه، وليس بالنسبة إلينا كمعنيين بالتاريخ والأحداث وما كان يحصل في الجزائر المستعمرة.
أما الزاوية الثالثة فتتعلق بالشأن السياسي المحض. لقد كان مواطنوه الفرنسيون يعيشون فسادا في بلد استعمروه، ولأنّ هذا الأديب العملاق اسمه ألبير كامو، وليس بوشكارة أو بوكسكاس أو بوقزول أو المطيّش، فكان عليه، من الناحية الذرائعية، على الأقل، أن يكون في الصف الآخر حفاظا على مصلحته المباشرة، وليس لنا أن نقارن الكاتب بالفيلسوف جان بول سارتر، أو نتخذ هذا الأخير مرجعا نتكئ عليه كلّما أردنا تقييم الآخرين وتصنيفهم. لقد كتب سارتر «عارنا في الجزائر» وتعرّض إلى مضايقات ورقابة نتيجة مواقفه الإنسانية بالدرجة الأولى، لكنّنا لم نقدّم له شيئا كعرفان له على موقفه الإنساني.
في حين فضّل كامو الحيطة والحذر. لذا ظلّ يتفرّج على الأحداث، دون أن يتدخل بشكل مباشر، ولأنه فرنسي الاسم واللقب واللغة و الثقافة و التكوين والدين، إن كان متدينا، فلا يمكن أن نطلب منه التخلي عن هويته ووضعها جانبا، كبضاعة من البضائع، ثم ارتداء هوية أخرى لا تعبّر عنه في جوهرها. لقد كان وطنيا بطريقته،أي مفخرة من مفاخر فرنسا الاستعمارية. وهذا شأنه.والحال أنّه ليس من باب المنطق فصله عن كيانه الذي شكلته الأزمنة والثقافات، ثم جعله مدافعا عن قضية إنسانية لا يؤمن بها، أو لا يهتم بها في كتاباته لأنها تلحق به ضررا في جهة ما، أدبيا أوفلسفيا، كأن يتردّى مستواه أو يخوض في موضوعات «ظرفية»، أو تحاصره الرقابة الفرنسية وينبذه المثقفون الذين ينحدر منهم، أويتخلى عنه شعبه ومحبّوه من القراء: مسألة خيار انتحاري.
وقد نفعل نحن الشيء ذاته في سياق مشابه، نقف مع الجزائر ظالمة أو مظلومة لأننا منها، وذاك ما فعله كامو بصمته عن التعذيب والمجازر و تفقير الناس وإذلالهم. الأمر الذي رفضه الآخرون، وهم قلّة مقارنة بعدد المثقفين الذين سكتوا عن التعذيب مثلا، أو بأولئك الذين كانوا في صف الجريمة الكبرى، كما حدث تماما في أدبنا الجديد الذي انساق وراء الأخطاء بفعل أدلجة تجاوزها الواقع والمعطيات.
ليس من قبيل الحكمة، من هذه الناحية، أن نعاتب ألبير كامو انطلاقا من موقعنا المخصوص. يكفيه فخرا أنه لم يخن بلده، ظالما أو مظلوما. لكنّه بالمقابل، لم يتورّط في التهجم على الجزائريين، كما فعل كتّاب آخرون يهيمنون حاليا على كتبنا المدرسية، دون أن نولي أيّ اهتمام لمواقفهم الشائنة، مع أنهم ظلوا، خلال كلّ حياتهم، حاقدين على شعب أعزل تورّط المستعمر ومشتقاته في زعزعة مرجعياته وقيمه. وبعد عقود من الاستقلال، يبدو الخراب واضحا على عدّة أصعدة. لنذكر، على سبيل التمثيل، مواقف أندري جيد وكارل ماركس وفيكتور هوغو وموباسان، وهي مواقف ساخرة تستحق اهتماما خاصا لأنها صادمة، ومذلة إلى حدّ كبير.
أين تورّط ألبير كامو تحديدا؟ الظاهر أنّ تصريحه الشهير هو الذي انقلب عليه. لقد فضّل أمّه على العدالة. ربّما فعلنا الشيء ذاته في سياقات مشابهة، وباستراتيجية أخرى، أقلّ حدّة، أو أقلّ مباشرة، بالترميز أو بالتلميح عندما تفرض المنفعة ذلك، كأن نترك الخطاب مفتوحا، قابلا لقراءات أو لتأويلات. الأمر الذي لم يفعله كامو، ما أدّى إلى إدانته ككاتب عالمي أساء إلى «القيم الإنسانية»التي كانت وراء حصوله على جائزة نوبل، دون أن نبحث عن خلفياتها، لأنّه، من الناحية الأدبية، يستحق عشرات الجوائز الدولية بالنظر إلى ما قدمه للأدب.
ولا أحد منّا يستطيع نكران هذه العبقرية الخالدة. أمّا من حيث الموقف فالأمر مختلف، ولا داعي للحديث عن جزائريته، سواء من حيث اللغة أو من حيث الثقافة والتفكير والرؤى و المواقف. لقد ولد كامو فرنسيا وعاش فرنسيا ومات فرنسيا، مقتنعا بالانتماء. وهذا من حقه كمنتوج حضارة مختلفة لها مقوماتها، بل إنّه لمن العبث أن نفرض عليه نموذجنا الفكري، أو جزائريتنا، أن نربطه بالبرنس والناي والكانون و القرآن وعذاب الأمة تحت وطأة المحتل الذي ينحدر من صلبه، ومن كيانه.
أجدني أحيانا متعاطفا مع الأديب ألبير كامو، ميالا إلى قراءة نصوصه المؤثثة فلسفيا، تلك النصوص المدهشة التي تربك العقل. لكني، بالمقابل، أسائل باستمرار حياده وتصريحه الذي جنى عليه. وقد يبدو لي، في حالات أخرى، ضحية ضغوطات سياسية جعلته يقف إلى جانب الشرّ. كما فعل كتّاب آخرون، ومنهم وباسان، القاص الشهير الذي مسخ الجزائريين بعد نزوله في الأميرالية، مقابل ساحة الشهداء بالعاصمة. وهذه عينة من العينات لا غير. وإذا حدث أن نبشنا تاريخ الكتاب الفرنسيين فسنكتشف قضايا مثيرة تجاوزت موقف كامو لأنها عنصرية، ومركزية.
لقد عاش ألبير كامو كبيرا ومات كبيرا جدا، من الناحية الأدبية بطبيعة الحال، ومن الصعب أن ينجب هذا الكوكب عشرات من أمثاله، وفي ذلك المستوى الاستثنائي. كما كان وطنيا يحب بلده، وهذا شيء يحسب له، وليس عليه كما يمكن أن نعتقد نحن القراء المنتمين لأمة اضطهدت تاريخيا، ومن ثمّ اتخاذ مواقف مناوئة له سياسيا.
ومع هذا..إذا حدث أن قارنا ألبير كامو ببعض مثقفينا وكتابنا ومسؤولينا وسياسيينا، فنستنتج أنه لم يسئ إلينا كما أساء هؤلاء، مجانا، سواء بالتنكر أو بمسخ التاريخ والهوية. هل يجب فتح ملف هؤلاء الكتّاب الذين أشار إليهم رشيد بوجدرة في كتابه زناة التاريخ؟ إنهم كثيرون، هنا وهناك.لذا قد أغفر لكامو زلاته عندما أنظر إلى هؤلاء الذين أصبحوا ملوكا أكثر من الملك، وفرنسيين أكثر من الفرنسيين أنفسهم، رغم أنهم ولدوا في الجزائر واقتاتوا منها، وما زالوا ينتفعون بأشكال مختلفة، كما يفعل رجال الأعمال والسماسرة، وقد نطرح من جديد معنى الأدب الجزائري، السؤال الذي سيحيّر الكثيرين. حينها فقط يمكن أن نتحدث عن موقف ألبير كامو، بموضوعية، ودون مزايدات ليست ذات قيمة فعلية من حيث إننا قد لا نختلف عنه في بعض كتاباتنا ومواقفنا...وفي صمتنا عن الشرّ الأعظم، وعن الشيطان.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 18/03/2019
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : السعيد بوطاجين
المصدر : www.eldjoumhouria.dz