عانت الموظفات في قطاع الصحة العمومية، من الطواقم الطبية و شبه الطبية، ظروفا استثنائية، في الفترة التي شهدت جائحة كورونا أوج تفشيها، و لا يتعلق الأمر بالضغوط المهنية و الخوف من الفيروس، بل تجاوز الأمر إلى تعرضهن إلى مشاكل اجتماعية و أسرية كثيرة، زادت من إرهاقهن و»احتراقهن المهني»، فقد واجهت العديد منهن بسبب الحجر الصحي في الفنادق، و هو الإجراء الذي اتخذته المصالح الصحية لوقاية ذويهن من العدوى المحتملة، تهديدات من أزواجهن بالطلاق، و التفكك الأسري، و قد سبق و أن ذكرت مصالح الصحة بوهران أن ثلاث مستخدمات في قطاع الصحة العمومية طلقهن أزواجهن لذات الأسباب.وبعد عام تقريبا عن الأزمة الصحية، و تزامنا مع الاحتفالات باليوم العالمي للمرأة، عادت النصر لتقصي وضعية مستخدمات الصحة العمومية اللائي تعرضن لضغوطات عائلية في عز الجائحة، رغم أنهن أردن فقط حماية أفراد العائلة و القيام بواجبهن المهني والوطني الذي استدعته الظروف.
الحجر في الفندق أزم علاقاتهن بأزواجهن
لم نتمكن من التوصل إلى السيدات اللائي توترت علاقاتهن بأزواجهن خلال حجرهن في الفنادق، لكننا حاولنا الوقوف على الوضع العام لمستخدمات الصحة اللائي يواصلن عملهن في ظل ظهور إصابات بالسلالات المتحورة.
و أفادت مصادرنا من القطاع أن إحدى المستخدمات وصلها نبأ طلاقها خلال الحجر بالفندق، لكن زوجها أرجعها بعد أن اشترط عليها إتمام الحجر في البيت مع أولادها، و تتحمل هذا العناء في سبيل التوفيق بين واجبها المهني و العائلي.
بينما تواصل أخرى عملها رغم طلاقها، و قالت مصادرنا أن سبب الانفصال هو رفض زوجها إقامتها في الفندق في ذروة الجائحة، و برر موقفه بوجهة نظر أخلاقية ، و حاولت إقناعه مرارا إلى أن تقبل الأمر على مضض، بشرط أن تطلعه على كل مواقيت خروجها و دخولها من و إلى الفندق و المستشفى و كان يتصل بها باستمرار ، وذات يوم عندما كانت تهم بالخروج من المستشفى على الساعة التاسعة ليلا ، لتتوجه إلى الفندق، قدمت حالات طارئة و اضطر كل الطاقم للتدخل لإسعافها و إخضاعها للتنفس الاصطناعي والتكفل بها إلى غاية وصول طاقم المناوبة الليلية، و لم تنتبه لاتصالات زوجها المتكررة لانشغالها بإنقاذ المرضى. وبعد خروجها أعادت الاتصال بزوجها لتخبره بالوضع الذي أخرها و لم تستطع الرد عليه، فانهال عليها بوابل من السب والشتم، ورغم دفاعها عن نفسها ، إلا أنه أخبرها بأنها طالق، معتبرا أنها تحججت بالحجر الفندقي، لتتمتع بحرية السهر ليلا خارج المنزل!
الحالة الثالثة، أصيبت بعدوى الفيروس أثناء تعاملها مع المرضى، ورغم علمها بمضاعفات الإصابة، إلا أنها لم تتقبلها و تدهورت حالتها النفسية، لأن المرض اضطرها لمتابعة العلاج في المستشفى وبالتالي الابتعاد عن أولادها، فتوترت علاقتها مع زوجها أكثر فأكثر، فقبل مرضها اشتدت الخلافات بينهما بسبب الحجر في الفندق، و تضاعفت المشاكل وتأزم الوضع بينهما، ما أدى إلى مغادرة الزوج البيت وانفصالهما .
و لا تزال علاقتهما لحد اليوم تتأرجح بين إمكانية لم الشمل أو إتمام الطلاق، في الوقت الذي تواصل فيه هذه السيدة متابعة العلاج النفسي وحتى العصبي، بعد تعافيها من الوباء، وعودتها إلى أولادها.
نساء قبلن الحجر المنزلي تفاديا للتفكك الأسري
أدت الأزمة الصحية إلى اضطراب الحياة الزوجية لعديد الموظفات في الصحة العمومية، و منهن حالة كانت تخضع قبل كورونا للعلاج رفقة زوجها، من أجل الإنجاب.
وفجأة ظهر الوباء و اختلطت الأمور لأن الزوجة اضطرت للتوقف عن العلاج بسبب تواجدها في مصلحة استشفاء المصابين بالفيروس وخضوعها للحجر الصحي في الفندق، في حين واصل زوجها مسار العلاج الخاص بالإنجاب، فتدهورت علاقتهما الزوجية و تفاقمت المشاكل بينهما، مما أدى إلى إخضاع الموظفة لحصص العلاج بمفردها في البداية، ثم تم التدخل لجمعها مع زوجها في حصص نفسية مشتركة لتذليل العقبات و إعادة المياه إلى مجاريها، و تحقق ذلك فعلا، لكن الزوجة لا تزال تخضع للعلاج من اضطرابات عصبية.
أما عائشة فلم تتمكن من المكوث بالفندق في إطار إجراءات الحجر الصحي، ليس لأنها أم لطفلين، لكن لأن زوجها خيرها بين الفندق و الطلاق، فلم يكن بوسعها سوى أن تتقبل قرار زوجها، و عادت إلى بيت العائلة، أين خصصت لها غرفة و لوازم وكل ما تحتاجه من أجل الخضوع للحجر و الخروج للعمل و العودة لتلك الغرفة. وكان كل أفراد العائلة يتخذون كل الاحتياطات الوقائية.
طيلة تلك الفترة الصعبة لم تتمكن عائشة من احتضان ولديها ولا أن تتكفل بهما، بل كانت تراهما من بعيد، و تكفل أبوهما بشرح الوضعية لهما وتبسيطها لكي يتقبلا الأمر و يتفهمانه، وهكذا كان الحال لعدة أشهر، إلى غاية تراجع عدد الإصابات بالفيروس، و انفراج الوضع، حيث تمكنت عائشة من العودة إلى حياتها السابقة ومشاركة أبنائها و زوجها يومياتهم.
للأسف لم يدم الحال طويلا، فقد عادت مجددا إلى غرفة الحجر مع ظهور السلالات المتحورة من كورونا الأسرع انتشارا، و لم تستطع عائشة تحمل الوضع و هي تعاني حاليا من اضطرابات نفسية تؤثر على علاقتها الزوجية.
أما إيمان، صاحبة 25 سنة، فإن والدها و خطيبها رفضا بقاءها في الفندق بسبب الحجر الصحي، وهددها خطيبها بفسخ الخطوبة، إذا صممت على الحجر الفندقي، و أيد والدها قرار خطيبها.
شرحت إيمان لهما أن عودتها إلى البيت تشكل خطرا على العائلة بسبب احتمال نقل فيروس كورونا، خاصة وأنها كانت تعمل في مصلحة الإنعاش، فقررت العائلة أن تخصص لها غرفة عزل في البيت و أفرشة و أواني للأكل والشرب، مع تعقيم الحمام وآلة الغسيل بعد أن تستعملهما إيمان، التي لم تكن تنزع الكمامة داخل المنزل، وهكذا قضت عدة أشهر أثرت على حالتها النفسية، فقد شعرت أن أفراد أسرتها يعاقبونها، كما زاد شعورها بالقلق والخوف من نقل العدوى إلى والديها، ولا تزال لحد اليوم تقيم بغرفة انفرادية، لكنها أصبحت تجلس مع العائلة أحيانا، مع احترام التباعد الجسدي.
و هناك موظفة أخرى في نفس القطاع، كانت تتكفل بكل احتياجات أولادها و هم متعلقون بها كثيرا، رغم وجود والدهم معهم، لكن الأزمة الوبائية أرغمتها على الابتعاد عنهم والخضوع للحجر في الفندق، و لم يعارض الزوج ذلك ، لكنه لم يستطع التكفل بأبنائه، لأنه لم يتعود على ذلك، فاضطرت ابنتهما البكر التي لا يتجاوز عمرها 16 سنة، لرعاية إخوتها الأربعة.
بعد انتهاء الحجر في الفندق، عادت الأم إلى بيتها و كانت حالتها النفسية مضطربة، فوجدت فلذات كبدها في وضع نفسي أسوأ منها، و عوض أن تخضع هي لحصص العلاج النفسي، رافقت أبناءها للعيادة النفسية و بدأت حالاتهم تتحسن شيئا فشيئا.
الأخصائية النفسية فتيحة مزوزي
الواجب المهني كان منفذا لتخفيف الضغوط النفسية على مستخدمات الصحة
قالت الأخصائية النفسانية بالمؤسسة الإستشفائية أول نوفمبر بوهران، فتيحة مزوزي للنصر، أن متابعتها لمستخدمي الصحة شكل دعما نفسيا و سندا ومرافقة لهم، خاصة في الأشهر الأولى من الوباء، و الآن لا يزال المسار متواصلا، خاصة مع ظهور السلالات المتحورة وهي أكثر شراسة من الأولى.
و أبرزت النفسانية أنها تستقبل حاليا بعض المستخدمات اللواتي يطلبن استشارات لتبديد مخاوفهن من السلالات الجديدة، بعد عودتهن لحضن أسرهن منذ أشهر، بعد انخفاض حدة الوباء.
و أوضحت المتحدثة أنها شاركت في دراستين حول كورونا ومستخدمي الصحة العمومية و الآثار النفسية، و تتمحور الدراسة الأولى حول «إستراتيجية المواجهة»، أي كيف واجه الأطباء والممرضون الفيروس، خاصة عندما أصيبوا به؟
وبينت نتائج الدراسة أن القلق والتوتر و الانفعالات كانت عالية جدا عندهم، و أشارت الباحثة أن العمل أنجز بمعية مجموعة من الأساتذة الباحثين، مضيفة أنه بناء على نتائج هذه الدراسة، انتقلت للبحث في محور «الاحتراق المهني»، وهو العمل الذي تعكف عليه حاليا، معتمدة على عينة تضم 300 مستخدم من أطباء و ممرضين كانوا يتكفلون بالمصابين بكورونا، بمختلف المصالح الإستشفائية بمستشفى أول نوفمبر.
و أضافت أن نتائج الدراسة الأولى المتعلقة ب «إستراتيجيات المواجهة»، و المقصود بها الأسلوب أو الأساليب التي ينتهجها الفرد بغرض تخفيف الضغوط الناتجة عن موقف معين، أن الأطباء و أعوان الصحة يلجأون إلى انتهاج إستراتيجيات مرتكزة على أداء المهام بالدرجة الأولى، نظرا لطبيعة المهنة و تحملهم مسؤولية الحفاظ على صحة و أرواح المرضى، كما أنهم يستعملون إستراتيجيات التجنب بمستوى ضعيف، وهذا يعود أيضا إلى طبيعة المهام التي يقومون بها.
وأردفت مزوزي، أن العمل مع الحالات، يطرح عدة إشكاليات، خاصة المقابلة العيادية التي يشترط فيها الثقة و تقدير الآخر، و تتطلب أن تكون الصورة مكتملة، حيث يكون النفساني مطالبا باليقظة لاحتواء الحالة وفهمها، و مطابقة ما يقال، مع ما لا يقال، بالاعتماد على إيماءات ونظرات الحالة و أيضا نبرة صوتها، إلا أن الظروف التي تمت خلالها المقابلة، حالت دون ذلك، مما طرح العديد من التساؤلات، منها كيف يمكن عقد علاقة علاجية مع الحالة بناء على مقابلة، يسودها الحذر والخوف من الآخر؟ وكيف يمكن فهم الآخر، دون أن تكون الصورة مكتملة؟
وجاءت الدراسة بناء على إشكالية تطرح نفسها بعدما كثرت الأخبار عن إصابات الأطباء و أعوان الصحة عبر العالم، فتم طرح تساؤل حول كيفية مواجهة مستخدمي الصحة بالجزائر للموقف؟ وما هي الإستراتيجيات التي يعتمدونها للمواجهة، بعد تأكد إصابتهم بالفيروس؟
وبعد جمع المعطيات النظرية، تم اعتماد المنهج العيادي، بإجراء مقابلتين مع كل حالة و الإستعانة بمقياس إستراتيجيات المواجهة المقنن، من طرف مجموعة من الباحثين بمركز البحث في الأنثروبولوجيا الثقافية و الاجتماعية «كراسك» بوهران.
ومن بين الحالات التي عملت عليها النفسانية مزوزي، اخترنا عينة من النساء، وفق ما جاء في الدراسة، للوقوف على كيفية مواجهتهن للوضع الوبائي، منها حالة (ب، ف) التي تبلغ من العمر 36 سنة، وهي مطلقة تعيش في بيت والديها مع ابنها الوحيد، البالغ 8 سنوات، و تعاني الكثير من المشاكل العائلية، وتجد في عملها منفذا ومتنفسا.
أما علاقاتها المهنية، فبعضها يتميز بالتقارب والتفاهم، والبعض الآخر تسوده المشاحنات والصراعات الخفية، ومع بداية انتشار الوباء كثرت الضغوط المهنية، و ظهرت الصراعات التي كانت خفية في الوسط المهني، و كان أغلبها مع الأعوان الأصغر منها سنا.
حسب ما تضمنته الدراسة، فإن «ب،ف» ذكرت بأنها أصيبت أكثر من مرة بأعراض تشبه الزكام، لكن نتائج الفحص والتحليل كانت سلبية، ولا تذكر بالضبط كيف انتقل إليها الفيروس، لكنها كانت مصابة بالوسواس، و حضرت نفسها لتقبل الإصابة بالعدوى، و قالت»عرفت منذ البداية بأنني سأصاب بكورونا»، موضحة بأن الحرص والخوف يكونان قبل الإصابة، أما بعدها فلا يبقى سوى الخوف على أفراد العائلة.
أما الطبيبة (و، ك) البالغة 46 سنة، و أم لبنت لا تتجاوز 6 سنوات و ولد4 سنوات، فقد عاشت في بيت والديها في جو يسوده الخوف وعدم الأمان، إلى درجة أنها كانت تتفادى الجنس الآخر، وهو ما جعلها تتأخر في الزواج و الإنجاب، و كانت علاقاتها مع أهل زوجها بعد زواجها تتميز بالتباعد ، فاعتبروا ذلك نوعا من التكبر من جهتها، ورغم معاناتها من عدم قدرتها على الوثوق بالآخرين، والتقرب منهم، إلا أنها كانت تتفادى التعبير الانفعالي، و تقبلت إصابتها بكورونا بشكل عقلاني ومنطقي، خاصة وأنها كانت مطمئنة على أولادها الذين تعودت على تركهم عند والدتها.
في حين تعذر على الأخصائية مزوزي، مواصلة الدراسة مع الممرضة (ف، ع) 48 سنة، بعد أن ساءت حالتها ودخلت العناية المركزة.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 09/03/2021
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : بن ودان خيرة
المصدر : www.annasronline.com