الجزائر

أعمق مناجاة شكسبيرية بأغرب ترجمة عربية



حيث تعتبر كتابات شكسبير المسرحية أشبه بكتابة الشعر، وهو شاعر في الأصل، يحيك جمله بعناية فائقة إلى درجة أن الإخلال بتركيب أو كلمة قد يفسدها تماما، وهو ما حدث بالفعل في ترجمة مسرحياته إلى العربية مطلع القرن العشرين، عندما كانت الترجمة لا تخضع إلى تدقيق أو تثبت، ما جعلها أشبه بالتحريف، وما يدعو اليوم إلى الوقوف على أخطائها لتلافيها.هكذا ببساطةِ جدولِ ضرب. شكسبير تقنية. بها يتفرّد ما إن تجاهلها خليل مطران حتى تخبطتْ ترجمته وتعثرت، وكذا ابتعدت عن الأصل لدرجة محزنة، أو محرجة، أو معا. كمن يبحر بلا بوصلة، أو كمَنْ يبحر بزورق مثقوب. كذلك كانت ترجمة جبرا هي الأخرى، بلا ضابط. لم تكنْ تعنيه التقنية، فانغلقت بوجهه الصور الشعرية، وهي النفائس من القول. استلّ معانيَ الكلمات والجمل من القاموس، لا من النص. لذا لم تخلُ صفحة من صفحات ترجمته لمكبث، مثلا من انحرافات غريبة. ترجمة مأهولة بالأغلاط. غلطة أو غلطتان في كل صفحة. (للمزيد عن هذا الموضوع راجع مقدمة مكبث بترجمة كاتب هذه السطور).
@@أخطاء مطران
الفكرة من وراء هذه المقالة في الأصل، هي التعرّف عمليّاً على بعض تقنيات شكسبير وأعرافه التأليفية، ولكنْ لكثرة شطحات خليل مطران وقصور فهمه للنصوص الشكسبيرية، معنى ومبنى، سنقتصر على بعض الأمثلة وفحصها عمليّاً. وقد يكون من الأفضل العودة ثانية إلى مقالتنا السابقة المنشورة في "المدى" وكيف سخر ميخائيل نعيمة في كتابه "الغربال" من لغة خليل مطران في ترجمة مكبث.لنأخذ على سبيل المثال عينّيتين من ترجمة مطران، من الفصل الخامس – المشهد الخامس، وفيه يتساءل مكبث عن سبب العياط الذي كان يسمعه، فأجابه حامل درعه بأنه عويل نسوة. كانت ردّة فعل مكبث حسب ترجمة مطران كالتالي: "عجبتُ كيف نسيت إحساس الفزع. فقد مرّ بي وقت لو علا من الظلمة صوت لجمدتُ من التهيّب. ولو سمعت سيرة محزنة لتصلّب شعري على رأسي، كأنها الأشباح أحياء بأرواح لكنني الآن شبعت من الروع. وقد ألفتْ فكرتي أفظع الأشياء، فلنْ أجزع من شيء، علام هذا النحيب؟".
وقبل التمعن في هذه الترجمة، أعلاه، قد يكون من الأفضل اقتباس النص الإنكليزي، وهو كالتالي:
Macbeth: I have almost forgot the
taste of fears.The time has been, my senses would have cool'd.To hear a night-shriek; and my fell of hair.Would at a dismal treatise rouse, and stir,.As life were in't. I have supp'd full with horrors:.Direness' familiar to my slaughterous thoughts,.Cannot once start me.
لا ريب ما من صلة بين ما ترجمه مطران وبين النص الإنكليزي. ابتدأ المترجم بكلمة: عجبت وهي غير موجودة في النص الإنكليزي، ومعها حذف "almost" ثم قال "نسيت إحساس الفزع"، ولكنّ النص الإنكليزي واضح تماما في تعبيره "The taste of fears" أيْ مذاق المخاوف. وبكلمة مذاق يكون مكبث قد دشّن ربما لأوّل مرة حاسة الذوق، لا سيّما وقد ارتبطت بكلمة: تجرعت، بعد أربعة أسطر. جملة مطران "عجبت كيف نسيت"، أي بحشر كلمة عجبت وحذْف كلمة "في الغالب" (almost) صارت جملة يقينية، ولكنّ مكبث في هذه المرحلة بدأ يشكّ في كل شيء من الساحرات الثلاث إلى حواسه الخمس والآن بدأ يشك حتى بأحاسيسه. لذا فوجود "في الغالب" ضروري لتوكيد القلق أو اللايقين الذي أخذ ينتاب مكبث. يقول مطران أيضا "فقد مرّ بي وقت لو علا من الظلمة صوت لجمدت من التهيّب". هذه جملة مثل الملابس الجاهزة ليست مفصّلة على المقاس. وكأن كلّ صوت آتٍ من الظلمة يجمّد مكبث، ولكن ليس الأمر كذلك، لأن ما كان يخيف مكبث حقّاً هو صوت معين، أي الزعيق الليلي، وكان مرتبطاً بالبومة وما تنذر به من شؤم. مثلاً بعد أن قام مكبث بقتل الملك دنكن، قال لزوجته لقد فعلتها، ألمْ تسمعي شيئا، فتجيبه "سمعت البومة تجأر". ويقول مطران "ولو سمعت سيرة محزنة (يقصد حكاية أشباح أو حكاية مرعبة) لتصلّب شعر رأسي (يقصد لوقف شعر رأسي)". ثم يقول مطران بعد ذلك مباشرة "كأنها الأشباح أحياء بأرواح". ما المعنى؟ الجملة تدخل في باب التخالط. ولكنْ لمن يعود هاء الضمير في "كأنها"؟ هل للحكاية؟.. ما قاله مكبث ببساطة إن شعره يقف وكأنه حيّ (فالشعر والأظافر أشياء ميتة). فمن أين جاء مطران ب«كأنها الأشباح أحياء بأرواح"!. يقول مطران "لكنني الآن شبعت من الروع". هذه جملة سردية إنشائية خالية من أي مفاجأة. ولكنّ النص الإنكليزي يستعمل بدقّة كلمة "Supp'd"، يعني يتجرع رشفة رشفة. وهي كلمة تتناسب مع كلمة مذاق كما مرّ بنا أعلاه.
@@المناجاة المنتهكة
في ما يتعلق بأشهر مناجاة في المسرح الشكسبيري. تتوقت هذه المناجاة بعد أن سمع مكبث للتوّ بوفاة زوجته الليدي مكبث، وأنّ غابة بيرنام بدأت تزحف، وأن أعداءه باتوا يحاصرون قلعته، فلا تدري هل كان مكبث يرثي نفسه، في هذه المناجاة أم يرثي الإنسان، أم يرثي الحياة؟.
Tomorrow, and tomorrow, and
tomorrow,.Creeps in this petty pace from day to day,.To the last syllable of recorded time;.And all our yesterdays have lighted fools.The way to dusty death Out, out, brief candle!.Life ‘s but a walking shadow, a poor player.That struts and fret his hour upon the stage,.And then heard no more: it is a tale.Told by an idiot, full of sound and fury,.Signifying
nothing.
وقد جاءت ترجمة خليل مطران، على النسق التالي "هكذا تتصّرم الأيام من حيث لا نشعر بها، متوالية إلى آخر هجاء من أهجية الكتاب، الذي يحرر فيه الدهر أحداثه وسيره. كل ليلة تنتهي تمهّد لبعض الأناسي الضعاف طريق القبر. انطفئْ انطفئ أيها النور المستعار هنيهة. ما الحياة؟ إنْ هي إلاّ ظلّ عابر، إن هي إلاّ الساعة التي يقضيها الممثل على ملعبه متخبطا متعبا ثمّ يتوارى ولا يُرى. إن هي إلاّ أقصوصة يقصّها أبله بصيحة عظيمة وكلمات ضخمة على أنها خالية من كلّ معنى".
للحق ما من كلمات خالية من كلّ معنى إلاّ الترجمة أعلاه، إذا كانت تلك ترجمة. أين شكسبير؟ صدقا لو اجتمعت دزينة من الخبراء الشكسبيريين ليجدوا صلة من أيّ نوع بين مناجاة مكبث والترجمة أعلاه لعجزوا عن ذلك. يقول مطران على لسان مكبث: "هكذا تتصرّم الأيّام من حيث لا نشعر". ولكنّ مكبث لم يقلْ ذلك، وإنما قال:
Tomorrow and tomorrow and tomorrow.Creeps in this petty pace from one day to another. أي: "
يزحف غدٌ وغدٌ وغدٌ بهذا الخطو البطيء من يوم إلى يوم". هنا جعل شيكسبير الزمن وكأنّه دبيب حشرة بطيئة (هل هي صدى للفأرة في بداية المسرحية التي هددت بأنها ستفعل وستفعل وستفعل. ترتبط الفأرة فولكلورياً بالخراب في بعض الأحيان). وحتى يزيد شيكسبير من حدّة الصورة ذكر كلمة "هذا" This وكأنّ مكبث كان ينظر إلى هذا الخطو البطيء بعينين مفتوحتين، وهو أقسى ألم، لأنه يحدث أمامه أو كما يقول المتنبي: واحتمال الأذى ورؤية جانيه غذاء تُضوى به الأجسام". بالإضافة إلى ذلك فإن كلمة "هذا" تفيد الآنية، بكل ما تحمل هذه الكلمة من قلق، إلا أنّ مطران حذفها. حشر خليل مطران جزافا "من حيث لا نشعر". هذه الجملة نابية إنْ لم تكنْ مؤذية لأن مكبث في هذه المناجاة بدأ يشعر بوحدته وعقم حياته، بالإضافة إلى أنه كان يتحدث عن نفسه. يردف خليل مطران بعد ذلك مباشرة "متوالية إلى آخر هجاء من أهجية الكتاب (المفروض أن تكون أهاجي) الذي يحرر فيه الدهر أحداثه وسيره". هل هذه فعلا ترجمة ل«إلى آخر لحظة مكتوبة للحياة؟". يقول مطران "كل ليلة تنتهي تمهّد لبعض الأناسي الضعاف". ولكن ليس في النص الإنكليزي كلمة ليلة ولا كلمة تنتهي ولا كلمة تمهد، ولا لبعض ولا الأناسي ولا الضعاف". هل هذه ترجمة أم تخرّص؟.
على أي حال، يبلغ عدم عناية خليل مطران بتقنيات شكسبير أدنى درجة حينما يترجم "Out، out، brief candle" كالتالي: "انطفئْ انطفئ أيها النور المستعار هنيهة". أوّلاً لم يكنْ مكبث يخاطب النور، وإنما الشمعة "Candle" ثانيا من أين جاء المترجم بهذه الصفة الغريبة أيْ المستعار، ومن أين جاء ب«هنيهة"؟ أهي ترجمة ل«أيتها الشمعة القصيرة الأجل؟". يقول الناقد البريطاني الراحل جون وين "العبارة في مسرحية مكبث، من بين كل مسرحيات شكسبير تتصادى مع عبارة أخرى أو تنذر بقدومها"، وحسب الناقدة البريطانية الراحلة روما جيل، فإن الشمعة تعني الحياة. لا ريب أن شمعة مكبث ما هي إلا صدى لشمعة الليدي، مكبث في المشهد الأول من هذا الفصل تضيء ولا تضيء. ضوؤها عقيم كالضوء الذي ينير "الطريق إلى الموت المعفّر". جاء في سفر أيوب- الإصحاح الثامن عشر-6 "النور يظلم في خيمته وسراجه فوقه يظلم".يستطرد مطران فيقول "ما الحياة؟" واضعا وراءها علامة استفهام، وهي غير موجودة في الأصل. أكثر من ذلك فإنّ مكبث في هذه اللحظات الحرجة من حياته بدأ لأوّل مرة يدخل مرحلة اليقين، كيقينية سفر الجامعة، "الكل باطل وقبض الريح" (10). لذا قال بثقة، "ما الحياة إلاّ ظلّ سائر.. ما الحياة إلاّ ممثل مسكين، ما الحياة إلاّ حكاية يرويها ممثل أخرق.. ولا تعني شيّاً". ما تبقى من ترجمة مطران لهذه المناجاة يتعذّر تصديقه.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)