كنتُ دائما ولا أزال أعتقد أن أزمتَنَا على جميع الأصعدة، هي أزمة ثقافيّة بالدرجة الأولى.. على مستوى الوعْي والقِيَم، ومِنْ هناك تنتقل إلى السُّلوك والمواقف، وتنعكس سلباً على التّنميّة في جميع الميادين. إنّها أزمة أعلاف ومفاهيم وتصورات.. كثيرٌ من النّاس مازال غيرَ مُهَيَّئٍ للانفتاح الذي يقتضيه العصر، ومازال غير مُهَيَّئٍ للتّعايش ثقافيّا مع غيره، كما أنّه مازال غير قابل للاختلاف مع غيره،ومازال لم يَتَمثَّلْ -ثقافيّاً- أنّ كونَه جزائريّا يمثّل هُوِيَّةً قائمةً بذاتها، مهما كانت رَوافِدُها، ولم يتَمَثَّلْ بعد مفهوم المواطنة، التي تقتضي الاصطفافَ تحت راية الجزائر، كما أنه لم يستطع أن يستوعبَ ثقافيّا، فكرةَ أن لا وجود حاليا لِهُويَةٍ نَقِيَّةٍ واحدةٍ، بفعل الانفتاح والتزاوج والعيش المشترك، ولم يستوعِبْ أيضا أن التّنوّعَ والانفتاحَ يُمثِّلُ ثراءً للهُويّة الوطنيّة، وليس تهديداً لها ولا انتقاصاً منها..إنّ نقطة الضّعف الأساسيّة لدى المثقّف الجزائريّ تكمن في عدم قدرته على التّأثير الفعلي في الواقع، وفي افتقاده إلى القدرة على النزولِ إلى الميْدان والاهتمامِ بالشّأن العام والخروج من القوقعة ومغادرةِ الأبراج العاجيّة.. فإذا استثنينا بعض الحضور المحتشِم، من خلال مبادرات فرديّة لبعض المثقَّفين في الصحافة وفي وسائل التّواصل الاجتماعي، فإنّ المثقّفين عموماً لا حضور لهم خارج المدرّجات الجامعيّة ومخابر البحث.. هذا إذا افترضنا أنّ لهم إضافاتٍ في الجامعات وفي البحث العلمي الذي يبقى هو الآخر يخضع للمبادرات الفرديّة و لا يستند إلى رؤية منهجيّة ذات بعد وطني وبعيدة المدى …
الحقُّ أنّ كثيراً من المثَقّفين الجزائريين يمتلكون ثقافةً فلسفيّةً نظريّةً عاليّة، ولكنّهم لا يلعبون أدوارا مؤثّرة في المجتمع ، حيث لابدّ من مُؤَهِّلات لتحويل النظريّات إلى أفكار واقعيّة واستخلاص برامج عمليّة قابلة للتطبيق وفاعلة في الميدان.. إنّها فكرة الفاعليّة التي طالما أثارها مالك بن نبي (فقد تكون الفكرةُ سليمةً ولكنّها ليست فعّالةً لأسباب كثيرة، والعكس..) ثمّ لابُدَّ من القدرة على التّأثير والتّواصل، وتبسيط الأفكار النّظريّة حتى يَفهمَها غالَبيَّةُ الناس، ويتأثّروا بها لِيَتَبَنَّوْهَا بعد ذلك.. المشكلةُ عند المثقّفين الجزائريين أنّهم حبيسو المستوى الأوّل.. مستوى الثقافة النظريّة التي لا تصافح الناس إلا بالقُفَّازات البيضاء، ولا تنزل من الأبراج العاجيّة، ولذلك تجدهم لا يكتبون إلا لزملائهم وأمثالهم من المثقَّفين الرسميين أو بعض الذين تربطهم بهم صِلاتٌ شخصيّة، ولا يقرؤون إلا لبعضهم..
والنتيجة أَنْ وَجَدْنا انسحاباً شبه عام للمثقّفين من الشّأن العام للوطن، وقد ساهم ذلك، إلى جانبهشاشة السيّاسات الثقافيّة الرّسميّة للدّولة القائمة على الاستعراض والفولكلوريّة، في تعميق الأزمة الثّقافيّة التي خَرَّبَتْمعنوياتِ الإنسان ومواهبَه،وشلّتْ كلَّ إمكانيّات المبادرة والفاعليّة والقدرة على التعايش والتفاعل الايجابي لديه،وبعد ذلك امتدّتْ آثارها الكارثيّة إلى كل قطاعات التنميّة.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 07/10/2018
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : مولود صياد
المصدر : www.elhiwaronline.com