الجزائر

أحمد بن بلّه يغادرنا



وصل القاهرة شاب وسيم طويل القامة بعد هروبه من السجن سنة 1952، علمنا نحن مناضلي حزب الشعب أنه أحمد بن بلاّ، رئيس المنظمة الخاصة العسكرية الثورية التي كنت عضوا فيها قبل حلها سنة 1950 ، واتصلت به عدة مرات فوجدت فيه الشاب المهذب الدمث الأخلاق الصلب الإرادة، فتوثقت صلتي به منذ الأسابيع الأولى لوصوله، ووجدته يختلف عن زميليه اللذين سبقاه للقاهرة محمد خيضر وحسين آيت أحمد، فبالرغم من ضعفه في اللغة العربية إلا أنني لمست فيه حبا عفويا لكل ما هو عربي، واعتزازا بانتمائه العربي، وهي صفة نادرة لدى الكثير من الجزائريين المتكونين بالفرنسية.
كنا طلبة معظمهم بدون انتماءات سياسية، وكان البعض ينتمي لحزب البيان دون أن يجاهر به، والبعض الآخر ينتمي لحزب الشعب ويجاهر بذلك ككاتب هذا المقال، ومولود قاسم، وقاسم زدور. وأكثرية تتعاطف مع هذا الأخير. لكن ما أن اندلعت حوادث المغرب وتونس حتى عم الشعور بين معظم الطلبة بأن حزب الشعب هو الذي ينادي بالصواب. وأن الاستعمار لا يخرج من الجزائر إلا بقوة السلاح.
وتوطدت العلاقة بيني وبين أحمد بن بلّه، كان يعمل في السر، لا بظهر اسمه في أي صحيفة، بل كان تردده على مكتب المغرب العربي قليلا. وعندما كنت أسأله : متى تندلع ثورتنا فأنت خير من يعرف، ألم تكن قائد المنظمة العسكرية الخاصة؟ كان يجيبني: صبرا، ستكون الثورة، ينبغي علينا أن نستعد لها.
في نهاية سنتي الدراسية بكلية الآداب جامعة القاهرة، تدربت على السلاح في معسكر أنشاص بالقاهرة، وقررت الدخول للجزائر ، لكن أحمد بن بلاّ قال لي:من يحمل السلاح كثير، لقد أعطاك الله قلما جيدا، تبقى معي هنا بالقاهرة، الجزائر في حاجة إليك هنا بالعالم العربي''. وعيّنني أمينا دائما لمكتب جيش التحرير بالقاهرة الذي كان يديره بن بلاّ ، يشرف على التكوين السياسي والفكري للشباب الآتي من الجزائر والخارج للتدرب في المعسكرات المصرية على السلاح.
وأذكر أنني أستقبلت ابن أحمد المعروف بعبد الغني ، ومجموعة من الشباب من المدارس الفرنسية بالجزائر حضروا للقاهرة وتدربوا على سلاح الضفادع البشرية ثم على الطيران العسكري فيما بعد، كما استقبلت مجموعة من الشبان تدربوا على السلاح في الكلية العسكرية في العراق وهم العقيد مصطفى الهشماوي، والرائد بلال حفراد، ومحمود الباي، وأحمد الكفيف (شهيد)، وعبد الله الوزاني (شهيد)، وأحمد سليماني (شهيد).
كان أحمد بن بله بسلوكه وشخصه قد كسب ثقة جمال عبد الناصر الذي كان يتعامل مع الثورة الجزائرية من خلاله، زوده بأول دفعة من السلاح شحنها على باخرة دينا التي تبرعت بها ملكة الأردن دينا حيث كانت الباخرة عبارة يخت لها، ويخت ملكي لم يساور المخابرات الفرنسية شك بأنه سينقل السلاح، وكان على الباخرة الطالب الأزهري محمد بوخروبة سئل بن بلاّ عن موقفه من اللغة العربية ! فأجاب : أعتبر أنه من العيب أن نأتي بعد ربع قرن من الاستقلال لنسأل عن موقفنا من اللغة العربية، أنا ضدّ من يطرح أي لغة أخرى مهما كانت، فعلى مستوى اللغة العربية فهي لغتنا الوطنية، ولا يمكن التخلي عنها أو تشجييع أي لغة أخرى منافسة لها، أنا بربري في الأصل وتراثي البربري تدعيم لأصالتي العربية والإسلامية ومن ثمّة لا أسمح بوجود لغتين وطنيتين رسميتين: عربية وبربرية، إنّ اللغة الوطنية الوحيدة هي اللغة العربية، أما البربرية فتدخل في حيّز التراث الذي يتطلب منا إثراؤه ودعم الإيجابي منه.
رحم الله أحمد بن بلاّ وأسكنه فسيح جنانه.
إنا لله وإنا إليه راجعون




سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)