الجزائر

أحلام مع البحر



وصلنا عند الغروب إلى شاطئ العقيد عباس، وكانت ليلة من ليالي الصيف مقمرة هادئة ساحرة، أحضرت العائلة لوازم البحر والأكل، وحتى الشاي وبعض المكسرات.. غمرتنا نشوة عذبة وطرب راقص على وقع أنغام البحر، وسحر حفيف الأمواج، توزعت عائلات هنا وهناك، وذاب الجميع في سحر حميمي، عوضهم شقاء النهار وصخب المدينة، رغم أن العائلات لا تعرف بعضها، إلا أنها كانت تتبادل السلام والتحيات، وحتى بعض المأكولات والمشروبات..
وضعنا الطاولة والكراسي، ثبتناها جيدا على الشاطئ، وافترشنا الرمل ورحنا نلهو كالصبية ونصنع من الرمل الندي أشكالا ونبني قصورا ونشيد برروجا.. استلقيت على ظهري في دفء الرمل وأغرتني السماء بنجومها المتناثرة وبدرها الزاهي ومداها اللامتناهي، توسدت كومة من الرمل ونمت.. نمت ولم أكن أرغب في النوم، ورأيت فيما يرى النائم أننا جميعا نتوسط البحر بطاولتنا وكراسينا وأمتعتنا، نتحاور، ندردش، نتجول.. لا شيء يدعو إلى الدهشة، كأننا في البر، ولا أحد منا استغرب الأمر، غير أن الخوف بدأ يتسرب إلينا عندما أخذنا نتباعد شيئا فشيئا عن البر، وصارت المياه الإقليمية وراءنا وتلاشت الأضواء الخافتة للمدينة، واستحالت الطاولة يختا يتمايل.. ثم أخذ تمايله يشتد ويعنف، نحن الآن في أعالي البحار، ساد الليل وظلامه وعم الكون المائي، وبعدت المسافة بين الليل والنهار، تكور الليل على النهار، وصار النهار من الماضي حلما لا يتحقق، واشتد بنا اليأس، بتنا لعبة تتقاذفنا الأمواج العاتية، كنا عندما ترفعنا الأمواج عاليا نتطلع إلى اللاشيء عسانا نبصر شيئا، وصار الواحد منا لا يرى من حوله، بل لا نرى حتى ذواتنا، أحوال البحر منذ وجدت تجمعت في تلك الليلة، وحاصرتنا بكل هيجانها وثورتها، صراعنا مع البحر سرمدي، ويجب أن يستمر إلى أن نصرعه أو يصرعنا، قذفتنا تيارات قيل أنها آتية من أعماق محيط اكتشفت أطرافه حديثا، تشبثنا ببعضنا وقررنا التحدي إلى آخر رمق من حياتنا.. بدا خيط رفيع من أفق بعيد جدا، لعله خيط هارب من فجر ليوم جديد، واستبشرنا خيرا بهذا البصيص وقوت عزيمتنا أكثر.. تنفس الصبح، وأخذ النهار بدوره يلتف حول الليل إلى أن تكور عليه وأبصرنا بعضنا.. تعانقنا في لهفة.. تحول المركب الذي أنهكته أمواج البحر وكادت تقضي عليه، إلى يخت فاخر، ثم إلى سفينة عظيمة ذات طوابق تمخر عباب البحر، يقودها ربان ماهر نحو الشاطئ الآمن.. استيقظت إثر موجة هاربة من البحر بللت رجلي وداهمت أفراد العائلة فاضطربوا وجروا في اتجاهات مختلفة، لكنهم استدركوا الأمر فاستغلوا الفرصة وراحوا يلهون ويلعبون في زهو تحت ضوء القمر بعيدا عن فوضى النهار وأعين الناس.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)