أبو عبد الله محمد بن عبد الله المعافري القلعي المعروف بابن الخراط الشيخ الفقيه النحوي، و الأستاذ المقرىء الصالح المبارك، أحد الثقاة الأثبات الصلحاء، الرواة تخرجوا على يديه، و ظهرت عليهم بركته، و فعلت فيهم سريرته الصالحة و نيتهن و لم يكن أحد اجهد منه على القيام و الصيام، و ما كان عيشه رضي الله عنه إلا من المباح و إذا اشتهى اللحم ينزل إلى النحر فيصيب الصفاق على الأحجارن وهي لحمه رضي الله عنه و ما من ناحية من النواحي إلا و له فيها مسجد و معلم، وكلها معروف البركة.
و كراماته رضي الله عنه أكثر من أن تحصى، و لو كتبت لكانت مجلدان و أحواله كلها كرامات، وكان يجلس لعلوم الحديث و لعلوم الفقه و لعلوم التذكير، وكان الغالب عليه رضي الله عنه الخوف، ما يمر في مجلسه إلا ذكر النار و السعير و الأغلال، و تكاد تفيض القلوب الحاضرين في مجلسه إلى الله تعالى، إذ جبل الله الخلق على أنهم لا ينفعلون غالبا إلا بالخوف، و لأجل هذا كان أكثر الشريعة تخويفان و ما زال رضي الله عنه مستمرا على هذه الحال إلى يوم وفاته، فبسط أمل الناس و رجاهم في رحمة الله و في سعة مغفورة و مناهم بما عنده من كثرة الثواب و أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا إلى غير ذلك مما اشتمل عليه مجلسه، وهذا طريق حسن لأنه لم يبق عند الله إلا الطمع في الرغبة فيما عنده، لأن الخوف فائدته إنما هو الحض على العمل و حين الموت القطع العمل و لم يبق إلا قوة الأمل ليلقى الله طيبة نفسه، فيجب لقاء الله فيحب الله حسبما اقتضاه الحديث.
و لقد رأت فصلا فيه ذكر وفاته الشيخ المقرئ أبي العباس ابن الخراط، و أنا أذكره بنصه: قال رحمه الله: إن وفاته كانت بعد صلاة العصر من يوم الجمعة الرابع عشر من شهر رمضان من عام أحد عشر و ست مئة (611)، و توفي في هذا اليوم فجأة من غير تقدم مرض، قال: و كان قد رتب ميعاذا بالقراءة لسماع تفسير القرآن العظيم، و ميعاد بعد صلاة الظهر لسماع حديث الرسول الله صلى الله عليه و سلم على جري عادة السلف الصالح في شهر رمضان، بينما أنا أقرأ بين يديه بالغداة و قد مرت ىية فهم منها ما لم نفهم و علم من فحواها ما لم نعلم، إذا و ثب قائما، فنزع طيلسانه، و طرح رداءه، و حسر رأسه، و بسط يديه، ورد ذراعيه فأمسك عن القراْة بقول الله تعالى:{قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} و لم ينزل يرددها و يكررها بتحدير و ترنين ثم أقبل علي ثم أقبل على الناس بخضوع و خشوع و أخذ يبين لهم ما عند الله من سعة الرحمة و إضعاف الحسنات و التجاوز عن السيئات، و أن الله لا يضيع أجر المحسنين، ثم قال: يا إخواني سألتكم بالله إلا ما ضممتم صبيانكم و أولادكم و أصاغركم و دعوتم لي و لا تنسوني فإني جار لكم، فلست أنساكم و أكثر هذا القول في بكاء شديد حتى كأنه أشعر أنه راحل من الدنيا و أن ذلك و داع منه للناس ثم دخل زاويته دون أن يختم مجلسه بالدعاء المعهود منه، ولما جاءت الصلاة الجمعة و أخذ الناس في الرواح، و جلس الإمام على المنبر و أذن المؤذن خرج على الناس من زاويته، و جلس منصتا لاستماع الخطبة فلما قضيت الصلاة نصب له كرسيه و استوى عليه و ازدحم الناس ينظرون إليه، فأخذت في قراءة الكتاب "المسند الصحيح" من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تصنيف الإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن اسماعيل البخاري رضي الله عنه، وهو ينظر إليه فاعتره سبه غشي أماله عن جانبه اليمن، فبادرت إليه مع بعض من قرب منه خشية أن يسقط فحملناه و أدخلناه زاويته، و أطبقنا الباب دونه فبادر إليه من كان يخدمه من أهله و جلسنا ننتظر عاقبة أمره إلى أن أذن مؤذن العصرن واخذ الناس في التنقل ثم أقيمت الصلاة فسمعت في الزاوية حركة اغتسال يفهم منه تجديد طهارة، ثم سكنت تلك الحركة، وقد أدرك فضل صلاة الجماعة، ثم استلقى مستقبلا فقبض طاهرا صائما صامتا معتكفا في الجامع قرا بقلعة بني حماد.
و لقي بها مشايخ منهم الأستاذ ابو الحسن علي بن محمد بن عثمان التميمين و الأستاذ أبو الحسن علي بن شكر بن عمر القلعي و اخذ عن الخطيب المقرئ النحو ابي عبد الله محمد بن عبد العزيز بن محمد المعروف بابن عفرا، و الفقيه الفاضل الزاهد ابي عبد محمد بن عبد المعطي المعروف بابن الرواح و غير هؤلاء و انتقل إلى بجاية و استوطنها، و اقرأ بها و جلس الأستاذية و انتفع الناس عليه، و كان معروفا بالصلاح، و كان مرفعا مكرما و كان حسن التلاوة صادق القراءة، و كان إذا أحيا ليلة سبع و عشرين فما دام الأستاذ أبو عبد الله يقرأ و يصلي قائما لا يركن إلى الجلوس فإذا قرأ غيره ممن يعينه يجلس و ذلك بجامع القصبة المحروسة شرفها الله بذكره خطب بالجامعين الأعظم و جامع القصبة و كانت خطابته أولا بالجامع الأعظم ثم غلب على الخطبة بجامع القصبة لما علم من فضله و علم من جلاله و صالح عمله.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 31/10/2010
مضاف من طرف : soufisafi
المصدر : تعريف الخلف برجال السلف