الجريمة شنيعة والقاتل "وحش جاهل"منذ أن وطأت قدماها أقسام الثانوية بمدينة أقبو بولاية بجاية وحلم سميرة الأول والأكبر أن تظفر بشهادة البكالوريا وتدخل الجامعة لتصنع يوميا في مخيلتها آلاف الأحلام، وكثيرا ما كانت تكشف لرفيقاتها في الدراسة أن من أحلامها أن تصبح طبيبة لتعالج المرضى، خاصة جدتها المريضة، أو قاضية لتعيد لوالدها حقوقه المهضومة من قِبل أبناء عمومته، وأحلام أخرى تركتها لنفسها. بعد ثلاث سنوات من الجد والكد وسهر الليالي جاء وقت جني الثمار، وكم كانت فرحتها كبيرة لما ظهر اسمها في قائمة الناجحين في شهادة البكالوريا، لتبدأ الأحلام تتجسد في عالمها، وظلت طيلة أشهر الصيف ترسم أحسن الخرائط التي توصلها إلى الجامعة.لم تكن سميرة تصدق ما يقال في محيطها، خاصة المواقف المعارضة لوالدها، الذي طلب منها التوقف عن الدراسة والاكتفاء بشهادة البكالوريا، وبرر ذلك ببعد المسافة بين منطقة أقبو، حيث تقطن، والجزائر العاصمة، حيث تدرس في الجامعة، وأن عادات وتقاليد القرية التي تقيم فيها العائلة لا تشجع الفتاة على مواصلة الدراسات العليا خارج المنطقة الخاضعة لسلطة القبيلة.ولتبديد تلك الشكوك حاولت سميرة جس نبض والدتها التي طمأنتها بأنها سوف تبذل كل ما في وسعها لإقناع والدها ليراجع موقفه، رغم قناعتها بأن المهمة مستحيلة، وحاولت الاقتراب من والدها العنيد لتفتح معه أمر مواصلة دراساتها في الجامعة، لكنه رفض أن يحدثها وأمرها بالانصراف وعدم التطرق مجددا لهذه المسألة، التي اعتبرها ب”الأمر المفروغ منه”.نشوة الانتصار على الأمية والنجاح في البكالوريا والخوف من الحرمان من عدم الوصول إلى الجامعة والمستقبل المجهول كلها تناقضات وإرهاصات تتصارع وتتصادم في ذهنها، إلى درجة أن عرضها أخوها على طبيب نفساني خوفا من تعرّضها لانهيار عصبي.مع بداية شهر سبتمبر بدأ الناجحون في شهادة البكالوريا في التوافد نحو العاصمة لمباشرة إجراءات التسجيل. الكثير من زملاء وزميلات سميرة أنهوا عملية التسجيلات الأولية واختاروا الكليات وحجزوا حتى الغرف، وبالنسبة لسميرة لا شيء تحقق، وبقي الوالد مصرا على قراره، وهي تريد الذهاب إلى الجامعة لمواصلة الدراسة بأي ثمن. وبتاريخ 28 سبتمبر من ذلك العام قضت سميرة الليلة كاملة وهي تفكر، بعد منتصف آخر ليلة في حياتها استيقظت لتصلي صلاة الاستخارة، وفي حدود الرابعة صباحا قررت أن تحطم جميع القيود وتتجاوز كل الممنوعات الوضعية، وأن تبني مستقبلها بيدها مهما كان الثمن.. جمعت بعض أغراضها والوثائق التي تحتاج إليها، وانطلقت وحيدة نحو محطة القطار لتكون وجهتها الجزائر العاصمة.. أخذت مكانا لها في إحدى العربات. تسمع دوي صفير القطار.. من هنا تبدأ المغامرة. مرت ساعة عن اللحظة الصعبة، حيث بدأت دقائق الاقتراب من القدر المحتوم في العد العكسي، لما تفطّن الوالد بأن سميرة قد غادرت المنزل، وعلم من أعوان محطة القطار، أنها كانت من ركّاب رحلة السابعة نحو الجزائر العاصمة.. ساعة قد مرت.. دون تردد توجّه الوالد نحو موقف سيارات الأجرة، لكنه لم يجد أحدا، فاستأجر بعدها سيارة لنقل البضائع من نوع “بيجو 404” مغطاة، وطلب منه نقله إلى العاصمة ل«استرجاع” ابنته المريضة عقليا، والتي فرّت رفقة عشيقها نحو العاصمة، وأنه لا يريد الفضيحة في أوساط العائلة والقرية بأكملها.انطلقت سيارة نقل البضائع نحو العاصمة، وبعد حوالي ثلاث ساعات من السير، بلغت مدينة الأخضرية وقطار بجاية لم يصل بعد، انتظرا لبضعة دقائق، وأخبر الوالد أعوان المحطة بأن ابنته المريضة موجودة في القطار، وأظهر لهم بطاقة التعريف والدفتر العائلي ليقنعهم بما يدّعي.. لما وصل القطار توجه الوالد نحو إحدى عرباته ليجد ابنته منكمشة من شدة الخوف، وكم كانت المفاجأة كبيرة لما أقنعها بأنه سيرجعها هذا اليوم إلى البيت العائلي، وأنه في اليوم الموالي سيرافقها إلى الجزائر العاصمة للقيام بالتسجيلات المطلوبة.. ورغم المفاجأة السارة إلا أن ذهن سميرة بقي مضطربا، لكنها فضّلت الاستسلام لما سمعته. الرحلة الجديدة.. الرحلة المشؤومةانزوى الأب مع سائق السيارة، وقال له إنه سيركب في مؤخرة السيارة ليراقب ابنته حتى يصل بها إلى المنزل، وانطلقت الرحلة “الهيتشكوكية” من مدينة الأخضرية باتجاه أقبو. في طريق العودة وداخل مؤخرة السيارة بدأت رحلة جديدة لما شرع الوالد في تنفيذ السيناريو الذي أعده، حيث ربط ابنته بحبل في قدميها ويديها، ووضع رأسها فوق ركبته، ونحرها مثل ما تنحر الشاة.بعض السائقين أشاروا لسائق السيارة بسقوط قطرات الدم من سيارته، ولما توقف ورفع الستار صعق بمشهد لم يكن يخطر أبدا على باله.. الوالد متكئ على الجانب وابنته مستلقية وغارقة في بركة من الدماء. السائق في حالة ذهول توجه مباشرة نحو فرقة الدرك الوطني بمنطقة تازمالت وأخبرهم بالأمر، وقاموا بتوقيف الأب القاتل ونقل المقتولة إلى غرفة حفظ الجثث بمستشفى تازمالت.محامي الجاني“ترددت كثيرا قبل قبول الدفاع عنه” قال المحامي مصطفى إنه قبل الدفاع عن المتهم من منطلق مهني بحت، حيث الجريمة التي ارتكبها تجاوزت حدود الإنسانية، لأنه ليس من السهل الدفاع عن أب قتل ابنته، وذنبها الوحيد أنها أرادت مواصلة الدراسة والذهاب إلى الجامعة لبناء مستقبلها. وقال المحامي إنه طيلة العشرين سنة التي قضاها في المهنة لم يسبق أن عاش مثل هذه الظاهرة، لما صفّق الحضور لقرار المحكمة التي أدانت المتهم بالسجن المؤبد.وأضاف المحامي أنه اعتمد على الجانب الاجتماعي والنفسي للمتهم ليس لإثبات براءته، و«لكن لإقناع أنفسنا والحضور بأننا أدّينا الواجب لا أكثر”. وأضاف أن هيئة المحكمة كانت رحيمة بالحكم، وأنه من المفروض أن يصدر في حقه حكم الإعدام، حيث الناس جميعا متألمون لسماعهم قصة النجيبة التي قتلها والدها، لأنها ببساطة أرادت الذهاب إلى الجامعة. وقال المحامي إن القصة المروعة هذه تصلح كثيرا لتكون سيناريو لفيلم رعب.الأخصائي في الأمراض النفسية قاسم علي“المتهم ليس مريضا ولكنه لا يتحكم في قدراته العقلية” أكد الدكتور قاسم، الذي كلفته المحكمة بإجراء الخبرة الطبية على المتهم، أن هذا الأخير ليس مريضا عقليا، ولكنه لا يتحكم في قدراته العقلية وهو سريع الغضب، حيث جاء في التقرير أنه حاول ذات مرة قتل ابنة أخيه لما رآها وهي تتحدث مع زميل لها بالثانوية، حيث توجّه مباشرة إليها وأمرها بالانصراف، ووقف تبادل الحديث مع زميلها رغم صغر سنهما.وكشف الطبيب أن تقرير الخبرة الطبية المنجز رفقة مصالح الأمن تضمّن عدة حالات تجاوز للمتهم، لكنه لم يسبق أن ارتكب فعلا خطيرا، ولم يسبق أن تم توقيفه من قِبل مصالح الأمن لأي سبب كان.وتبين لأعضاء اللجنة الطبية التي استنطقته أنه شخص يتميز بالانزواء والعناد، وأن جهله وراء الجريمة البشعة التي ارتكبها، وأضاف الطبيب أنه بالرغم من الرد على جميع الاستفسارات بشكل طبيعي وعادي، إلا أنه لم يرد التحية على أي من الحضور يوم المحاكمة، ولم ينظر حتى إلى أولاده الذين كانوا داخل القاعة وأصغرهم عمره أربع سنوات.يوم المحاكمة.. يوم مشهود خلال اليوم المبرمج لمحاكمة الأب القاتل في محكمة الجنايات تنقّل الكثير من أبناء القرية من صغيرهم إلى كبيرهم لحضور الجلسة والاستماع لمبررات “دا الحسين”، الذي مر عام على ارتكابه للجريمة الشنعاء.. لحظات دخوله القاعة، تلهث الحضور وحملقوا بقوة في ابن قريتهم الذي فاجأهم بما لم يكون يخطر ببالهم. لم يوجه التحية للناس رغم حضور زوجته وتسعة من أولاده.. المشهد كان رهيبا.. الأولاد الذين تتراوح أعمارهم ما بين 4 سنوات إلى 20 سنة انهالوا بالبكاء لرؤية والدهم والزوجة ذرفت دموعا كثيرة. تقدّم القاتل إلى منصة الاتهام وردّ على استفسارات القاضي، قال إن “ما حدث هو قضاء وقدر”، وأنه دافع عن شرف العائلة، ثم طلب من المحكمة أن تصدر الحكم الذي تراه مناسبا. الزوجة قالت لرئيس المحكمة إن ما حدث قد حدث وأولاده لا يزالون صغارا، وراحت تلتمس من هيئة المحكمة العفو لزوجها، رغم الجرح العميق الذي لن يندمل أبدا، على حد تعبيرها.ممثل الحق العام الذي وصف الجريمة ب«الشنيعة جدا”، ونعت القاتل ب”الوحش الجاهل”، التمس حكم الإعدام، وبعد المداولات عادت هيئة المحكمة لتعلن عن حكمها النهائي بإدانة المتهم بالسجن المؤبد.شهادات سكان القرية“دا الحسين” رجل صالح لكنه عنيد أجمع مواطنو القرية التي ينتمي إليها قاتل ابنته أنه ضحية عناده وجهله، فالرجل معروف باحترامه للناس والتزام حدود التعامل مع كل معارفه. فهو لا يمازح أحدا حتى أبناءه، وشغله الشاغل هو العمل في الحقل ورعي الغنم.. يكسب قوته من عرق جبينه، يسير في الجنازات كلما سنحت له الفرصة، في طريقه يردّ السلام على البعض، ويتجاهل البعض الآخر.وقال أحد جيرانه لرئيس المحكمة إنه ذات مرة مر بالطريق، وإذا به يسمع كلاما غير أخلاقي من أحد الشباب، ليدخل معه في اشتباك وكاد يقتله لولا تدخل المارة. وكان يهدد كل من يخاصمه بالذبح أو الوضع تحت عجلة الشاحنة.. يرهب الناس لكنه لم يسبق أن ارتكب فعلا خطيرا، وأنه يوم قام بفعلته الشنيعة فاجأ، بل وصدم أكثر من واحد، وانتهى رأي عقلاء القرية بالتكفل بعائلته وطرده من القرية في حال إطلاق سراحه.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 21/11/2014
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : ع رضوان
المصدر : www.elkhabar.com