عدم انتقال السلطة في الجزائر بسلاسة وسلمية مرض استعصى علاجه على الشعب الجزائري منذ الاستقلال، لكن بفضل حراك 22 فبراير أصبح الأمل في العلاج كبيرا لطي صفحة انتقالات سابقة شوهت صورة الوطن والشعب معا، إما بانقلاب أو اغتيال أو فرض رئيس ب "القوة".هذه خلاصة قراءة لمشهد لطالما يحلم الجزائريون بتغييره بهدوء بلا إراقة للدم أو اختفاء قسري أو تصفية حسابات. فمنذ الاستقلال في 1962، سنّ جيل الثورة بتدخلات وضغوط خارجية سنّة سيئة ما يزال الشعب يدفع ثمنها إلى غاية اليوم. فما حدث في صائفة 62، ورواج شعار "سبع سنوات بركات" وسقوط ضحايا من جيش الحدود والحكومة المؤقتة بقيادة الحكيم الراحل بن يوسف بن خدة، واستمرار المأزق حتى بعد انتخاب المجلس التأسيسي، وانشقاق الراحل حسين آيت احمد واختياره العودة إلى الجبل، كلها أعراض مرض خطير طال عمره إلى أن تمكن من جسد السلطة المتمثل بالنظام.
ولم يكن للشعب "المسكين" الذي ما صدق أنه تخلص من سلاسل الاستعمار الفرنسي وأذنابه من "الخونة والعملاء ودفعة لاكوست"، حتى سقط في مستنقع انتقالات غير ديمقراطية للسلطة، وزرع فيه "النظام" اليأس من التقدم لبناء دولة مؤسسات لا تعترف بالأشخاص، إلا بالصندوق الانتخابي والسيد في خياراته واختياراته.
وانتظر الشعب "المنهك" بصراع قيادة الأركان برئاسة الراحل هواري بومدين ورئاسة الدولة برأسها الراحل أحمد بن بلة، انتظر 19 جوان 1965 كي تحسم المعركة لصالح بومدين وحلفائه الذين من بينهم الرئيس المستقيل عبد العزيز بوتفليقة والطاهر زبيري رغم ولائهما السابق لبن بلة. فالأول وهو "ابن دواره" والثاني قائد أركان عينه بن بلة لكسر شوكة بومدين فانقلب إلى حامل قرار الإقالة وتحويله إلى الإقامة الجبرية من فيلا جولي إلى ثكنة تسالة المرجة.
بعد ذلك دخلت البلاد في فترة انتقالية طويلة لم تعرف فيها استقرارا سياسيا، إذ تعددت مخططات اغتيال بومدين، وكثر فيها المعارضون لخطة حكمه، واختفى خلالها الكثير من السياسيين الذين فضلوا المنفى على البقاء شهودا على تبعات انقلاب لم يأت في وقته، رغم أن فترة 1965-1976 عرفت العديد من الإنجازات والقرارات الاقتصادية الجريئة، منها إعلان بومدين تحفظاته على اتفاقية إيفيان، وتأميم المحروقات والبنوك والشركات الفرنسية.. وهو ما أدى إلى عزلة أوروبية للجزائر دفعتها للارتماء في أحضان الشركات النفطية الأمريكية.
"الكاسكيطة" فور الإرادة الشعبية
فترة انتقال الحكم من بلة إلى بومدين تم تسييرها بمرسوم حمل ما يمكن اعتباره إعلانا دستوريا، انتهى بدستور 77 المكرِّس للاشتراكية، وذلك بعد أن انتهى من "تطهير" الجيش ومؤسسات الدولة الناشئة من "بقايا نظام بن بلة".
ولم يكن بومدين يعلم أن الفريق الذي مكن له نظامه هو الذي "سيأكل" رأسه بعد تحييد المعارضين لهم داخل الجيش وجهاز المخابرات، وهو ما تم فعليا عندما "تم الاستيلاء" على مصادرة حق الشعب في اختيار رئيسه بعد وفاة بومدين، فبينما كان السياسيون يحشدون الولاءات ويعقدون التحالفات داخل جبهة التحرير الوطني، كان "العسكر" يستغرقون في اجتماعات "مشبوهة" تحت ضيافة الجنرال العربي بلخير في مدرسة برج البحري العسكرية للمهندسين، ليلتفوا على فرصة تاريخية لانتخاب رئيس جمهورية شرعي طبقا للدستور.
وكانت "إرادة القبعة الخضراء" فوق كلمة الشعب، فاختير الشادلي بن جديد رئيسا، ومرر به قرار تنصيبه أمينا عاما للأفالان خارج إرادة المناضلين، ليسير بعد ذلك على سنّة سلفه بتنفيذ عملية تطهير محت آثار بومدين ونظامه.
وعلى مدى سنوات حكم بن جديد ال13، غرق "العقيد الرئيس" المعين باستفتاءات شعبية بنسبة 99.99% في صراعات مستمرة، خاصة بعدما غض بصره عن تعيين أقارب له في مناصب حساسة في الدولة (ولاة وسفراء)، ما فتح عليه أبواب الابتزاز والمساومة فيما بعد من جانب بارونات الفساد والحاويات الذين شكلوا مع مرور الوقت محمية للفساد يصعب تدميرها، ولم يكن الإفلات منها ممكنا إلا بعد تحريك انتفاضة 1988 التي دبر لها فصيل في النظام بدعم من التيار اليساري، ليستفيد من نتائجها إسلاميون متعطشون للحرية وتطليق السرية، فكان ذلك بمثابة محطة أولى في مسار انهيار نظام بن جديد في 1992، واستخلافه بمجلس أعلى للدولة برئاسة الراحل محمد بوضياف.
ولم يكن انتقال مفتاح المرادية من بن جديد وخليفته للمجلس الأعلى للدولة مفروشا بالورود، بل غرقت البلاد في حمام من الدماء راح ضحيته بوضياف الذي هاجم المافيا المالية والسياسية التي تحكم البلاد وتُكثر فيها الفساد.
ومع مجيء ليامين زروال إلى رئاسة الدولة في جانفي 1994 بعد انقضاء فترة انتقال المجلس "العسكري" بواجهة مدنية تمثلت في بوضياف ثم الراحل علي كافي، ازدادت المشاكل وضعفت هيبة الدولة، وتعطلت الطبقة السياسية بفعل ميول النظام لقوى غير شعبية ساهمت بشكل كبير في "تكريس سياسة استئصالية" دمرت البلاد وشردت الجزائريين.
مطبات في طريق الرئيس زروال
ولم تدم فترة زروال الانتقالية طويلا، حيث قرر بعد تزايد الضغط الخارجي واستفحال الإرهاب، موازاة مع "إصرار" الجيش والأمن على سياسة "الكل أمني" لاستعادة الاستقرار.. فتقرر إجراء انتخابات رئاسية في نوفمبر 1995 ثبتت زروال رئيسا للجمهورية للإعلان بعد ذلك عن تعديل الدستور والعودة للمسار الانتخابي، في خطوة لإخماد نار الفتنة. وقبل ذلك بذل زروال مساعي لاستعادة "المغرر بهم" من الجبال بقانون الرحمة، إلا أن ذلك لم يشفع للرجل الذي تفاجأ بمفاوضات سرية بين المخابرات والجيش الاسلامي للإنقاذ انتهت بهدنة. ومع مرور الأيام تعددت استقالات زروال لرفضه أن يكون "خضرة فوق طعام"، ولم تتمكن الدولة العميقة آنذاك من إقناعه بالبقاء في الحكم إلى غاية انتهاء عهدته في سنة 2000، فجرى التفاهم على أن يستقيل لكن بتمديد فترة حكمه مدة 6 أشهر فقط، تجرى بعدها رئاسيات منقوصة الشرعية جاءت بعبد العزيز بوتفليقة الذي بدأ بناء نظامه بعقدة "انسحاب الفرسان" عشية الاقتراع في 15 أفريل 1999، وهو ما ساهم في إسقاط القناع عن "السلطة الفعلية" التي فرضته رئيسا مدعوما من أحزاب وافقت على إيقاف المسار الانتخابي في 1992.
وبعد 4 عهدات رئاسية ها هي الجزائر تغرق من جديد في مستنقع الفترات الانتقالية غير محسوبة العواقب، مع فارق مهم هذه المرة هو سقوط السلطة الفعلية (المخابرات) واسترجاع قيادة الأركان زمام التحكم فيها، وسجن رموزها السابقين وأذرعهم السياسية والمالية، بداعي "مرافقة الشعب في تحقيق مطالبه" المعبر عنها في الحراك الشعبي، والتي تتلخص في انتقال ديمقراطي يمر عبر اجتثاث جميع رموز النظام القديم ومحاسبتهم على فسادهم ونهبهم مال الشعب، وتكريس الإرادة الشعبية في اختيار من يحكم بانتخابات نزيهة لا يتدخل فيها الجيش ولا الإدارة، للشروع بعد ذلك في إرساء أسس صلبة لدولة القانون الفاصل الوحيد فيها هو القضاء المستقل.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 04/06/2019
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : جلال بوعاتي
المصدر : www.elkhabar.com