الجزائر

(2) الرصاصة اليتيمة.. التي قضت على "القوة الثالثة"!



(2) الرصاصة اليتيمة.. التي قضت على
ستأنف محمد بن صدوق نشاطه في الحركة الكشفية بعنابة، إثر تسريحه من الخدمة العسكرية الإجبارية التي أداها في "الطلائع الجزائرية" بكل من قسنطينة وتلمسان. كما سبقت الإشارة. (*)

لم يلتحق بحركة انتصار الحريات الديمقراطية، خلافا لبعض أصدقائه في الكشافة أمثال عبد الله فاضل والعربي آمراد.. لذا عاش أزمة هذه الحركة في صائفة 1954، كمجرد صدى من هؤلاء الأصدقاء، فقد بلغه مثلا أن فاضل حضر مؤتمر "المركزيين" بالجزائر، وأن محمد الهادي عرعار سافر إلى "أورنو" (بلجيكا) للمشاركة في مؤتمر "المصاليين".. ومع ذلك كان فاتح نوفمبر من نفس السنة مفاجأة بالنسبة إليه، مفاجأة غامضة، لأن ذهنه باختصار كان منشغلا بهمّ الحياة، قبل أي شيء آخر.. فقد كان يفكر في استئناف الدراسة المسائية للحصول على شهادة، على أن يركب سفينة الهجرة إلى فرنسا بعد ذلك.

لم يكن للثورة الوليدة كبير أثر في عنابة خلال الأشهر الأولى، لكن شد انتباهه مع ذلك أمران: اختفاء صديقه عبد الله فاضل (1) واعتقال صديقه الآخر العربي آمراد لتورطه في قضية مبهمة: خياطة حقائب ميدانية، عثر عليها لدى أسرى من الثوار.

المهم أن ذلك الحدث المدوي لم يمنعه من تنفيذ مشروعه: السفر إلى فرنسا لمواصلة دراسته كمهندس تقني. وفعلا نزل بمرسيليا في 13 يوليو 1955، ليتجه مباشرة إلى "سترازبورغ" شمال شرق البلاد.

لم يكن العمل المختص - بناء على سابق تكوينه بعنابة ـ في متناوله، فوجد نفسه ضمن طابور إخوانه من العمال غير المؤهلين، وأمام ضيق اليد التحق مضطرا بمركز التكوين المهني للكبار، لضمان الإقامة والأكل، في انتظار ما تسفر عنه الأيام.

بعد أيام معدودة اكتشف جبهة التحرير الوطني هناك. اكتشفها في مطعم يتردد عليه المهاجرون الجزائريون.

كلف بداية بمهام سياسية: التحسيس والتجنيد للقضية وسط الجزائريين، باعتماد وسيلة أولية هي قراءة الصحف والتعليق عليها، بحكم تفشي الأمية في هذا الوسط. مثل هذه المهام لم يتحمس لها كثيرا، لأنها كانت باختصار دون استعداده للبذل في سبيل القضية.

فدائي.. في الفرع الخاص

وهروبا من هذا النشاط السياسي الرتيب، قرر في أبريل 1956 الإنتقال إلى ناحية "ميلوز"، لكنه وجد جبهة التحرير في انتظاره هناك أيضا!

اتصل به مسؤول الناحية ليكلف بنفس المهام السابقة! تحمل الأمر على مضض. وذات يوم قرر مصارحة مسؤوله، بأنه يمكن أن يفيد أكثر في العمل المباشر، بحكم سوابقه في الكشافة وفي الجيش الفرنسي، حيث اكتسب مهارة مؤكدة في المدفعية والرشاش الثقيل - ووضعه أمام اختيار: إما أن يعين ضمن مجموعات العمل المسلح، أو يترك وشأنه لمواصلة دراسته التقنية.. لأنه بذلك سيكون مفيدا لاحقا لنفسه ولبلاده.

فهم المسؤول الرسالة هذه المرة، فأجابه بأن ما يطلبه سيجده بباريس، فإذا كان الأمر يهمه فعلا، فسيدله على من يهديه إلى هذا الطريق.

قبل الطالب المهاجر هذا التحدي، فأطلعه المسؤول على اسم حركي لمناضل بالعاصمة الفرنسية التي حل بها في بداية أكتوبر 1956. وكانت المصادفة غريبة حقا: فهذا المناضل هو عبد الكريم السويسي، قريبه وزميله في دورية كشفية بعنابة سابقا.

غير أن ظروف العمل السري - القاسية - أبطلت مفعول هذه المعرفة السابقة إلى حد ما: فقد اكتفى السويسي بتعريفه على شخص ثان، مؤكدا عليه بأن لا علاقة له به بعد الآن! فكأنه لم يره! ولم يسمعه!

وكانت الصدفة لصالحه مرة أخرى.. فقد تبين أنه يعرف أيضا الشخص الثاني وهو أحمد عمراني الذي كان تعرف عليه في الوسط الرياضي بعنابة، ضمن فريق كرة السلة.

قال له عمراني بدوره إن لقاءنا هذا هو الأول والأخير، وأطلعه بالمناسبة على شروط "الفرع الخاص"، وفي مقدمتها الإخلاص الكامل للقضية، والاستعداد للتضحية القصوى في سبيل الوطن.. منبها بأن الفدائي معرض للموت عند تنفيذ المهمة، أو للحبس في أحسن الأحوال.

ويعلق بن صدوق على ذلك: قبلت هذه الشروط، لأن هذا ما كنت أنتظره.. أي التضحية في سبيل قضية نبيلة، كتحرير الجزائر من الاستعمار.

قبل أن يودع عمراني الفدائي الجديد قدمه إلى مسؤوله المباشر.. كان نكرة بالنسبة إليه، ولم يعرف اسمه الحقيقي (2) إلا بعد الاستقلال.

أطلعه المسؤول المباشرة على بعض المهام المنتظرة من فدائيي "الفرع الخاص" مثل:

- متابعة حركات الأشخاص المناوئين لاستقلال الجزائر،

- اختيار أماكن مناسبة لتنفيذ عمليات محتملة،

- تحين أحسن الفرص للقضاء على الخونة وأعداء القضية الجزائرية،

وزوده ببعض التعليمات مثل: أن الفدائي مطالب بالبرهنة على قدراته الفردية، وأن ينفذ المهام المسندة إليه بالوسائل المتوفرة. ما يعني التحلي بروح المبادرة، والاعتماد على النفس، وسرعة فهم الأوامر والشروع في تنفيذها... إلخ.

مطاردة سوستال ولا كوست..

كانت مهمة بن صدوق الأولى نوعا من التحذير للوالي العام السابق جاك سوستال.. فقد تمكن من معرفة عنوان مكتبه بباريس، لكن لم يكن مسلحا. فاكتفى بمحاولة إحراق المكتب، بتسريب كميات من البنزين من تحت الباب وإضرام النار. وكان قد عين في فوج يقوده فدائي من قسنطينة يدعي صالح بوشمال.. لكن هذا الأخير ما لبث أن سقط برصاص الحركة المصالية فخلفه على رأس الفوج (3).

كان عضو "الفرع الخاص" يؤدي مهامه الخطيرة أيام العطل، أو مساءً بعد أوقات العمل.. وكان مطلوبا منه أن يتظاهر بعدم الاهتمام بالسياسة، وأن يكون حسن الهندام، يحمل معه دائما وثيقة العمل وعنوان السكن.. وكان مسموحا له بالتردد على الحانات لملاحقة أعداء القضية.

لذا كان الرئيس الجديد للفوج يعمل بصورة عادية، بل ينشط كرصّاص خارج أوقات العمل، فيقوم بإصلاحات في الفنادق، أو منازل الأصدقاء.. بل حتى في مسجد باريس أحيانا، لإخفاء أسلحة الفوج في نفقه!

كلف رئيس الفوج ذات يوم بمهمة جدية: ضرب إدارة الاحتلال في الرأس، باستهداف أحد رموز القمع في الجزائر: الوزير المقيم روبار لاكوست. ولتحضير هذه المهمة، استطاع التعرف على الشقة التي ينزل فيها عندما يحل بباريس.. وتمكن من الترصد له مرتين.. لكنه نجا منه باستعمال باب ثانوي للعمارة.. وكان أجل لاكوست لم يحن بعد، لأنه قابله صدفة في المرة الثالثة. لكنه لم يكن مسلحا!

وكانت المهمة الثانية مشروع تخريب مصفاة النفط في "روان". ذهب الفدائي يوم أحد إلى عين المكان، وعاد برسم بياني كامل للموقع المستهدف.

بعد فترة أخذت اتحادية جبهة التحرير تخطط للقيام بعمليات مثيرة، تدفع الأمن الفرنسي للرد عليها بتصعيد حملات قمعه للجزائريين، مما يسهل عملية التفاهم حول الجبهة.. وفي هذا الإطار حددت للفوج مهمتان:

- الأولى: رصد الأماكن التي يتردد عليها أيام العطل أكبر عدد ممكن من المظليين، وإطلاق الرصاص عليهم بدون تمييز.

- الثانية: تصفية "خائن كبير".. وقد وقع الاختيار على المحامي علي شكال رئيس مجلس عمالة وهران.. وعين لهذه المهمة الفدائي بوعلام.

كان شكال قد استقر في باريس بإلحاح من لاكوست شخصيا، ومن عاداته المعروفة أنه من هواة كرة القدم، يحضر سنويا نهائي كأس فرنسا.

وكان نهائي سنة 1957 بين "تولوز" و"أنجي" (4)، وتقرر إجراء المقابلة بملعب "كولومب" بعد ظهر 26 مايو.

تسلم بن صدوق من مسؤوله المباشر تذكرة لحضور المقابلة، مع وريقة تحمل أرقام السيارتين اللتين يستعملهما "أمير الجزائر" المرشح لزعامة "القوة الثالثة" التي تعصف "بغلاة المستوطنين"، و"مجانين الوطنية" على حد سواء!

وكان الأجل.. في الموعد

وحسب هذا المسؤول أن التذكرة تضع الفدائي في المنصة الشرفية، بل خلف الخائن مباشرة، وهو متميز بشاشيته التركية.. وكانت التعليمات أن ينفذ الفدائي العملية، وإذا جاءت الشرطة للقبض عليه فلا داعي لأن يهرب أو يقاوم. وبإمكانه أن يعترف بأن العملية من تدبير جبهة التحرير، لأن المستهدف خائن لقضية تحرير الجزائر.

كان بن صدوق على موعد مع بوعلام الفدائي المعين لتنفيذ العملية، عند مدخل إحدى محطات "الميترو" لكن في الوقت المحدد لم يجد بوعلام.. ولاحظ أن مسؤوله كان يتابع العملية بدون علمه، فتوجه إليه ليسلمه كيس الأسلحة، ليوزعها على بقية أعضاء الفوج - المعينين لتنفيذ العملية الأولى - ويخبره في نفس الوقت بأنه قرر تعويض بوعلام في تنفيذ العملية.

في الساعة الواحدة والنصف وقف الفدائي ينتظر "تاكسي" لنقله إلى ملعب "كولومب".. لكن أول سائق يستوقفه، نصحه بركوب القطار نظرا للوقت المتأخر..

أخذ الفدائي بالنصيحة، واستغل الفرصة للتخلص أثناء الطريق من جميع الوثائق والصور المحرجة، لأنه كان واثقا من اعتقاله، لكنه نسي مع ذلك في حافظة نقوده، ذلك الرسم البياني الذي كان أعده عن مصفاة "روان".

عند المدخل الرئيسي للملعب كانت المفاجأة الأولى: أن التذكرة لاتسمح له بالدخول إلى المنصة، لأنها تذكرة مدرجات لا غير! هذه المفاجأة جلعته يخشى أن تكون بقية المعلومات حول العملية منقوصة أو غير دقيقة، ويفكر في تأجيلها إلى مناسبة أفضل، ويقنع بمتابعة المباراة، لا سيما أن صديقه السعيد إبراهمي كان ضمن فريق "تولوز"!

قبل بضع دقائق من نهاية المقابلة سارع بالخروج، هروبا من ازدحام الجمهور، واحتمال انكشاف مسدسه جراء ذلك بكيفية أو بأخرى. التفت وراءه بعد الخروج، فلاحظ أن العمال يوصدون الأبواب، فلما استفسر عن ذلك قيل له إن العادة جرت أن تغلق الأبواب، للسماح أولا بخروج رئيس الجمهورية ومرافقيه.

ورأى تجمعا أمام الباب الرئيسي فسأل أحد الواقفين على ذلك، فكان جوابه: نحن بصدد انتظار رئيس الجمهورية (روني كوتي) لتحيته.. فوقف مع الواقفين، متظاهرا بمشاركتهم اهتمامهم.. كان إذّاك في لحظة حيرة، شارد الذهن، مشوش البال، تتقاسمه مشاعر الخيبة والأسف من احتمال فشله في تنفيذ ما أمر به.. لكن القدر شاء غير ذلك.. حين ظهر الرئيس الفرنسي وإلى جانبه شخصية بملامح جزائرية، وعلى رأسها شاشية تركية.. فوجئ أول وهلة، ثم تمالك قائلا في نفسه: ها هو هدفي! وهذه فرصتي! لم يكن بن صدوق يعرف هذه الشخصية.. ربما شاهد صورته في بعض الصحف.. لكن كان يعرف جيدا حماسه في الولاء لفرنسا، والدفاع عن "الجزائر الفرنسية" أمام هيئة الأمم المتحدة، إلى جانب بينو وزير الخارجية وجاك سوستال وأمثالهم.

كان واقفا في ذيل الطابور المنتظر أمام الباب الرئيسي.. وكانت المصادفة أن سيارات شكال ومرافقيه من ضباط الشرطة لم تكن مركونة مع سيارات الوفد الرئاسي والرسمي، بل خلف هذا الطابور في طريق جانبي.. ما جعلهم يمرون وهم يتوجهون إلى السيارات على خطوتين أو ثلاث منه.. في هذه اللحظة بالذات انتبه لوجود مسؤوله على بضعة أمتار مشيرا إليه برأسه.. أي نفذ الأمر!

وبدون أن يخرج مسدسه صوبه نحو صاحب الشاشية، وكان محاطا بثلاثة مسؤولين من الشرطة (5)، فانطلقت رصاصة كانت الأولى والأخيرة (6)، لكنها أصابت الهدف إصابة قاتلة: أصابته في جنبه الأيسر لتستقر في رئته، متسببة في نزيف مميت.

انهار الرجل، ونقل على جناح السرعة إلى مستشفى "كولومب".. لكن القدر كان أسرع.. فهلك في الطريق.

كان هدير الجمهور الخارج من الملعب قد غطى على دوي الطلقة اليتيمة، لكن محافظ الشرطة المرافق التفت صوب مصدر الدوي، فلاحظ الفدائي في وضع متفرد قليلا بالنسبة للجمهور، فاستعدى عليه عناصر الحرس الجمهوري المتجمعين بالقرب من حافلاتهم، قائلا في أمره "أوقفوه"! أوقفوه! لكن أريده حيا"!

ومع ذلك انهالت عليه الموجة الأولى من الحرس ضربا بالأيدي والأرجل، قبل أن ينتزعوا المسدد منه ويقيدوه، ثم يدفعوا به داخل ناقلة بالقرب من مكان الحادثة...

(يتبع)



(*) طالع الحلقة الأولى في عدد الأربعاء الماضي.

(1) عبد الله فاضل وزير سابق للشباب والرياضة، كان يومئذ قد التحق با لثورة بالمنطقة الثالثة مساعدا لكريم وأوعمران..

(2) هو المجاهد محمد عيساني من شمال غرب منطقة الصومام (بجاية).

(3) الفوج يتكون من خليتين ومسؤول بمجموع 7 فدائيين.

(4) فازت "تولوز" بالكأس، بعد أن ألحقت هزيمة ثقيلة بالمنافس (6 - 3).

(5) هما السيدان "روش" محافظ الشرطة البلدية، و"ميزيار" محافظ شرطة "كولومب" ومعهما ضابط ثالث.. وكان الثلاثة يحيطون بشكال لحمايته.

(6) تعطلت آلية المسدس بعد التصاقها بقماش الجيب.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)