حرص يغمراسن على البناء والتشييد، ونحا منحاه ابنه عثمان ثم حفيده أبو موسى الأول في تأسيس المنشآت العمرانية، الدينية منها والمدنية. وكان أبو تاشفين بن أبي حمو الأول (718-737هـ/1318-1337م) هو الآخر مولعا بالعمران، فقد تعدى أبو تاشفين الأول أسلافه من حيث الاعتناء بتشييد البناءات والعمارات، حتى صار عصره عصر ازدهار العمران في تلمسان. ويذكر الحسن الوزان أن عدد دورها ومنازلها بلغ في عهده نحو ستة عشر ألف دار 1، أي أن المدينة كان يقطنها أكثر من مائة ألف ساكن.
وكان يتميز عن غيره بالذوق الفني الرفيع، وبالثقافة الواسعة، بحيث كان رساما ومهندسا، وقد عبر يحي بن خلدون عن رفاهة حسه وتذوقه للجمال والأشكال بقوله: "مع صدقه بالاختراع وبصره بالتشكيل والابتداع" 2. ويعلق التنسي عن ذلك بقوله: " كان مولعا بتحبير الدور وتشييد القصور" 3، وبناء المصانع، وغرس الرياض والبساتين وإنشاء المتنزهات . وقد صخر أبو تاشفين لهذه النهضة العمرانية طاقة كبيرة من اليد العاملة الفنية، من أهل المدنية والأندلس، ومن الأسرى النصارى والسجناء، الذين كانوا يعدون بالآلاف في عهده 4. فكان منهم النجارون، والبناءون والزليجون 5 والمزينون، حتى خلد بهم آثارا عمرانية متميزة، بحيث لم يحقق هذه الظاهرة من سبقوه، ولم تكن من نصيب الذين جاءوا من بعده.
شيد أبو تاشفين الأول قصورا عديدة منها، دار الملك والدار البيضاء ودار السرور، كما بنى في موضع بتلمسان يعرف "بتفرغنبو" قصرا سمي بقصر أبي فهر، على أنقاض مسجد كان مشيدا بهذا المكان. ولا يزال هذا القصر محمولا في عهد ابن مرزوق (القرن 8هـ) على جزء من هذا المسجد 6، وكأنه ضاهى به قصر أبي فهر المستنصر الحفصي بتونس .
وكان السلطان أبو الحسن المريني (731-749هـ/1331-1348م)، قد أمر الفقيه الوزير ابن النجار، بأن يضع رخامة التوقيت، بالموضع المعروف بأبي فهر داخل تلمسان 7، غير أن النصوص لا تبين لنا كيف كانت هذه القصور والأحياء التي شيدت فيها؛ ولعلها كانت في الناحية الغربية من المدينة حيث يوجد الصهريج والقصبة.
وقد استخدم أبو تاشفين في نهضته العمرانية، إلى جانب اليد العاملة والفنيين والمهندسين المحليين وأسرى النصارى، المهندسين والفنيين الأندلسيين الذين طلبهم من حاكم غرناطة الوليد (713-725هـ/1313-1325م) 8 فكانت قصورا جميلة لم تعرفها قبله الملوك، حسب تعبير صاحب العبر 9.
1 : الحسن الوزان، وصف إفريقية، ترجمة: محمد حجي ومحمد الأخضر، بيروت: دار الغرب
الإسلامي، 1983، ط 2، ج 1، ص17.
2 : يحي بن خلدون، بغية الرواد في ذكر الملوك من بني عبد الواد، تحقيق: ألفرد بال،الجزائر، 1911-1913، ج1، ص 216.
3 : محمد بن عبد الله التنسي، نظم الدر والعقيان في بيان شرف بني زيان، تحقيق: محمود أبو عياد، الجزائر: المؤسسة الوطنية للكتاب،1985، ص 140.
4 : 3- DHINA (Attallah) : Le royaume Abdelouadide, Alger : OPU, 1985, p.35.
5 : التزليج هو التبليط بالخزف، و لا زالت هذه الحرفة منتشرة في منطقة تلمسان.
6 : محمد ابن مرزوق الخطيب، المجموع، مخطوط، الرباط: الخزانة العامة، ميكروفيلم رقم 20، ورقة. ويشير عبد الرحمن بن خلدون إلى أن معظم هذه القصور قد خربت على يد السلطان أبو العباس أحمد المريني عندما حاصر المدينة وغزاها عام 786 هـ/ 1385م. أنظر: عبد الرحمن ابن خلدون، كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر، بيروت، 1971، ج 7، ص 297.
7 : محمد ابن مرزوق الخطيب، المسند الصحيح في مآثر ومحاسن مولانا أبي الحسن، تحقيق: ماريا بيغيرا، الجزائر: ش و ن ت، 1981، ص36.
8 : عبد الرحمن ابن خلدون، كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر، بيروت، 1971، ج 7، ص 297.
9 : عبد الرحمن ابن خلدون، كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر، بيروت، 1971، ج 7، ص 297. وكذلك: عبد العزيز سالم، تاريخ وحضارة الإسلام في الأندلس، الإسكندرية: مؤسسة شباب الجامعة للطباعة والنشر والتوزيع، 1985، ص ص 249-250.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 27/10/2010
مضاف من طرف : tlemcenislam
المصدر : www.almasalik.com