الحق في العمل، وحقوق العمال
ان الانتشار الواسع لظاهرة الجوع والمرض مع زيادة الاستغلال والعمل غير الآمن الذي يهدد حياة الناس، وتفشت تلك الصور بين البشر كالوباء، ولكن الناس كثيرا ما تقبلوها أو تجاهلوها باعتبارها قدر لا فكاك منه أو أمر واقع لا سبيل لمنعه، حتى عرف الناس- وبالتدريج- أن وراء شقائهم أناس آخرين لهم مصالح مختلفة هي التي تصنع تلك الأوضاع التي تنتج الاستغلال والبؤس والفقر، وأنه لم يعد أمامهم إلا أن يقاوموا هذه الظروف والأوضاع ويتمردوا عليها.
وكثيرا ما استهدفت مقاومة الناس للظلم أفراد من المستغلين أو الطغاة، حتى سادت فكرة الدولة وأصبحت هي المتحكمة والمسئولة عن كل شيء، فأستقر الناس على أنها التي تستحق غضبهم وتمردهم. ورغم ما واجهته مقاومة الناس للظلم من بطش وسحق إلا أنها نجحت في تخفيف حدة الظلم بقدر أو بآخر.
ولا شك أن أفدح المظالم عبر العصور هي تلك التي عرفها العبيد بسبب استرقاقهم واستخدام قوة عملهم جبرا، وحرمانهم من حريتهم ومعاناتهم الجوع وبؤس الحياة على يد السادة والملاك، ولم يكن أمامهم من سبل المقاومة إلا محاولة الهرب من عبوديتهم والتي كانت تنتهي عادة بالعودة إلى الأسر والاسترقاق أو بالقتل، ومع ذلك فقد استمرت محاولات المقاومة والتمرد حتى صدرت قوانين القضاء على تجارة العبيد ومنع الاسترقاق.
ومع انطلاق الثورة الصناعية أنتقل البؤس من العبيد إلى العمال، الذين عانوا كثيرا من انخفاض الأجور وسوء أوضاع العمل المحفوفة بالمخاطر التي تهدد الصحة وتؤدي بالحياة، حتى صارت محل استنكار أصحاب الضمائر، وبدأ زعماء العمال يجهرون بالشكوى ويدعون لمقاومة الاستغلال وللدفاع عن حقوق العمال، باعتبار أن من واجبات المجتمع حماية أعضائه الذين يتعرضون للاستغلال، وعليه حماية حق كل أفراده في أن يعيشون بكرامة.
وقد عرفت مقاومة العمال للاستغلال في بداياتها مواجهة العمال للعمل نفسه وتدمير الآلات- حيث اعتبرها العمال مصدر آلامهم- ولكنهم عرفوا المقاومة وعرفوا من خلالها أن الحكومات التي تدعم الملاك المستغلين هي المسئول عن استغلالهم، وانتشرت ثورات العمال ومقاومتهم في كل مكان، وفرضت على الجميع احترام حقوق العمال والالتزام بسياسات تدعو للتخفيف من الاستغلال والفقر وتطبيق إجراءات للضمان الاجتماعي وتحسين الخدمات الصحية والاجتماعية وإلزام الدول والحكومات بذلك، من خلال مسيرة رائعة من الكفاح العمالي والتضحيات العظيمة في سبيل الانعتاق من نير الاستغلال الرأسمالي.
وقد أقرت الحكومات والدول بحقوق العمال باعتبارها السبيل لإرساء السلام العالمي والدائم، وكانت تلك هي البداية الحقيقية للاعتراف بحقوق الإنسان واحترامها.
فالإنسان يستحق أينما كان وفي كل الظروف وبغير استثناء حقوق اقتصادية واجتماعية وثقافية، وأخرى سياسية ومدنية، تستند إلى معايير قانونية تحميها معاهدات مواثيق دولية وأحكام الدساتير والقوانين الوطنية، والتي تفرض جميعها التزامات باحترام حقوق الإنسان وتعزيزها وحمايتها والوفاء بها.
وقد استخدمت هذه المعايير نهجا لمحاسبة الدول والحكومات على مدى الوفاء بالتزاماتها بحقوق الإنسان، باعتبار أن حقوق الإنسان أصبحت كل لا يتجزأ من حق إلى آخر، ومن دولة إلى أخرى، وأصبحت كافة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والمدنية مكفولة لكل الناس وفي كل بقعة من بقاع العالم وعلى أساس من المساواة وعدم التمييز.
وحقوق الإنسان حقوق واجبة الوفاء والإعمال لكل إنسان لكونه إنسانا، يستحق بصفته هذه الاحترام والحماية والتكريم، ويمكن- بل ويجب- لكل إنسان المطالبة بها، بكل السبل والطرق ومن خلال الإجراءات القضائية أو غيرها.
ويقع الحق في العمل ضمن حقوق الإنسان وفي مقدمتها، حيث لا يمكن إغفال أهمية العمل في حياة كل إنسان، فالعمل هو العنصر المجدد لوجود الإنسان، وتحقيق ذاته وشخصيته وممارسة حياته وإشباع احتياجاته، وهو مصدر الكرامة الشخصية والاستقرار الاجتماعي. كما أن العمل له نفس الأهمية في قيام الحضارة الإنسانية والمحافظة عليها بل وتقدمها. وأحد الشروط اللازمة للتنمية ومواجهة الفقر، والاستقرار والأمن والسلام في العالم.
وقد ارتبط العمل بالعدالة الاجتماعية باعتباره وسيلة للإنتاج وللتوزيع في ذات الوقت، فالعمل هو مصدر الثروة وإنتاجها وبه يمكن توزيع عوائد الثروة وقياس عدالة توزيعها.
'إذا أردت السلام.. فازرع عدلا'
هكذا حفرت تلك الكلمات على حجر أساس بناء منظمة العمل الدولية باعتبار أن العدل الاجتماعي ليس منحة، ولا هبة، ولكنه شرط لازم لاستقرار السلام الدولي، الذي هو- وبخبرة الإنسانية- الشرط الأساسي لاستمرار الحياة وتقدمها.
وقد حرص دستور المنظمة الدولية على تأكيد هذا المعنى، فجاء فيه:
'لا سبيل إلى إقامة سلام عالمي ودائم إلا على أساس من العدالة الاجتماعية'
كما جاء فيه أيضا:
'ولما كانت هناك ظروف عمل تنطوي على إلحاق الظلم والمشقة والحرمان بكثير من الناس، والتي لا بد من أن تولد سخطا كبيرا يهدد السلام والأمن العالميين للخطر، وكان من الضروري تحسين الظروف المذكورة، وذلك- مثلا- بتنظيم ساعات العمل بما في ذلك وضع حد أقصى لساعات العمل اليومي والأسبوعي، وتنظيم توفير الأيدي العاملة ومكافحة البطالة، وتوفير أجر يكفل ظروف معيشة مناسبة، وحماية العمال من العلل والأمراض والإصابات الناجمة عن عملهم، وحماية الأطفال والأحداث المستخدمين في العمل خارج أوطانهم، وتأكيد مبدأ تكافؤ الأجر لدى تكافؤ العمل، وتأكيد مبدأ الحرية النقابية، وتنظيم التدريب المهني والحرفي، وغير ذلك من التدابير.
وكذلك؛ ولما كان في تخلف أية أمة عن توفير ظروف عمل إنسانية عقبة تعطل جهود غيرها من الأمم الراغبة في تحسين أحوال العمال داخل بلدانها.
فإن الأطراف المتعاقدة تقرر- مدفوعة بمشاعر العدالة والإنسانية وبالرغبة في تحقيق سلام عالمي دائم، وتطلعا منها إلى بلوغ الأهداف المحددة في هذه الديباجة- إقرار دستور منظمة العمل الدولية، التالي نصه'.
وتشهد هذه الكلمات الواردة في دستور المنظمة الدولية على مدى افتقاد الإنسانية للعدالة الاجتماعية، ومدى احتياجها لهذه العدالة لتحقيق السلام العالمي.
وتعاود الإنسانية التأكيد على هذه المبادئ في إعلان فيلادلفيا، ومنها:
'يحق لجميع البشر، بغض النظر عن الأصل أو المعتقد أو الجنس، العمل من أجل رفاهيتهم المادية وتقدمهم الروحي في ظروف من الحرية والكرامة والأمان الاقتصادي وتكافؤ الفرص... وعلى أن تكون الظروف المهيأة لذلك هي الهدف الأساسي للسياسة الوطنية والدولية'.
ورغم انطلاق كل تلك النداءات الطيبة منذ عقود طويلة، فمازال هناك أكثر من 1.39 مليار عامل من الذين يكدون لصنع خير البشرية يعيشون هم وأسرهم تحت خط الفقر (2دولارفي اليوم)، ومنهم 550 مليون عامل لا تتجاوز دخولهم عتبات الفقر المدقع (دولار واحد في اليوم)، غير 185.9 مليون شخص يبحثون عن عمل ولا يجدونه.
لقد اخترنا أن يكون إصدارنا الأول متعلقا بالحق في العمل وحقوق العمال، ونأمل أن يقدم ذلك للحقوقيين وقادة العمل الاجتماعي والنقابيين والقادة العماليين مساندة أو إضافة، كما نأمل أن يكون إصدارنا الأول هذا مناسبة للتواصل بيننا وبين هؤلاء، فنحن نعرف أن عملنا سيظل منقوصا ما لم يتصل بعمل الآخرين ويلتحم مع كل الجهود المبذولة للتوعية والدعوة والتمكين في مجال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وحتى تصبح واقعا ممكنا على الأرض، معترفا به ومحترما وشاملا، وحتى نتمكن- ومعنا كل المواطنين- من الوصول إليها والتمتع بها.
إننا نسعى- في ذلك- إلى أن نتقاسم المعلومات والخبرات والأفكار مع كل المعنيين بحقوق الإنسان وخاصة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإلى تبسيط مفاهيمها والتعريف بعناصرها والعمل والتوعية والدعوة لها، ودعم أنشطة مناصرتها وتمكين المواطنين من ممارستها والتمتع بها.
كما نستهدف من إصدارنا الأول بتقديم الحق في العمل وحقوق العمال، ازدياد المعرفة والوعي لدى العمال ومن في حكمهم ومناصريهم بحقوق الإنسان عموما والحقوق والحريات العمالية والنقابية بشكل خاص، حيث نعتقد أن تطبيق هذه الحقوق والمبادئ وإعمالها والمحافظة عليها والتقدم على طريق تعميمها لن يتسع إلا باتساع نطاق معرفتها والإلمام بها.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 21/08/2013
مضاف من طرف : karimgur
صاحب المقال : عبد الكريم هواشي
المصدر : الذاكرة