الجزائر - A la une

وجع الحياة.. إلى المرحوم شعبان زروق أما بعد..



وجع الحياة.. إلى المرحوم شعبان زروق                                    أما بعد..
قال الشاعر الفلسطيني الرّاحل محمود درويش: ''من أسباب الموت وجع الحياة''.. نعم، للحياة وجع يعذبنا، يقهرنا وقد يقتلنا، بل أكيد أنه يقتلنا، ووقعه أشدّ وأقوى وأعنف على من يعيشه مرّة ومرّتين وثلاثا وأربعا، ويتقاسمه بكثافته وعمقه وقوّته وألمه وجرحه مع الآخرين، بل يقسم عمره على أجزاء قد لا تكفي هذا الكمّ الهائل من الشاكين والباكين والمظلومين والمقهورين في وطني.. وطن أصبح الإنسان فيه أرخس من التابوت الذي يحمله، ومن التربة التي تضمه إلى مثواه الأخير.. هذا واقع حال أصحاب الأقلام المسكونة بهمِّ الآخرين وهمّ الوطن.. ''الصحفي''، هذا المخلوق المتعدّد الآلام والهموم، تراه يجري وراء الحياة بنهم ورغبة، ليهبها لغيره، ويجري وراء الهموم بشراسة، لينزعها من الآخرين ويضمّها إلى همومه، وكأن همومه التي لا تختلف عن هموم الآخرين لا تكفيه.. يتألم عكس الجميع، مرّات ومرّات، فيكتب بصدق ووجع وقلق عن أزمات الوطن، وهو جزء لا يتجزأ من هذا الكمّ الهائل من الأزمات، من السكن إلى البطالة، إلى الراتب، إلى غلاء الأسعار، وينسى في خضم أوجاع الآخرين وجعه. فتجده يكتب عن أزمة السكن، ويتنقل إلى الأحياء القصديرية ومن تهدّمت مساكنهم، وهو يعيش في شقة مؤجرة، وكل عام يسكنه هاجس الانتقال خاصة، وهذا في غالب الأحيان، إن كان أب أسرة، فتراه لا ينام اللّيل من همّه، ومع ذلك، يخرج كل صباح ليكتب عن الإضرابات والاحتجاجات والهمّ العام، عن المستشفيات والمدارس والطرق، عن مطالب الأساتذة والأطباء والمحامين، وعن المرضى، وقد يترك وراءه مريضا في بيته لا يجد له سريرا في مستشفى.. كل ما يعيشه المواطن الجزائري، من آلام وقهر، يعيشه الصحفي مرّتين وثلاثا، فعندما يستمع إلى أصحاب الشكوى يتألم، وعندما يكتب عنهم يتألم، وبعد أن ينشر ما كتبه يتألم، وقد يُلام أو يحاسب أيضا، وقد يُشتم ويُلعن.. وفي خضم كل هذا، يعيش ألمه أيضا، إذ لا يختلف انشغاله عن انشغالات كل الجزائريين، ومع كل هذا، يسكنه هاجس الوطن حتى النخاع، وهو يتحرّى الحقيقة، ويرى بأم عينيه الاعوجاج والفساد والنهب والظلم والمحسوبية، وأحيانا كثيرة يحاول التغيير بما استطاع، وكثيرا ما يدفع الثمن، وهذا ألم آخر لا يدركه إلا من عايشه بصدق.. وكما يقول الأديب والصحفي البرتغالي جوزيه ساراماجو: ''ما أصعب أن يكون المرء مبصرا في مجتمع أعمى''.
نعم، للحياة وجع، ولمهنة الصحافة وجع آخر، لا يعيه إلا المنغمس فيها حتى الموت، فيعيشها بأعصابه ومشاعره وآلامه وأحلامه.. كيف لا وقد كانت حياة الصحفي، يوميا، محمولة على كفّ الموت، يخرج الصحفي حاملا كفنه وقلمه، ومع ذلك، لم ييأس ولم يهدأ ولم يهرب ولم يستسلم، رغم أن آلة الموت حصدت من بينهم العشرات، كما تحصد الحياة بوجعها منهم اليوم العشرات أيضا.. إنها مهنة المتاعب، بل إنها مهنة الوجع. وأختم بقول الشاعر محمود درويش: ''أرى كيف تذهب مني حياتي إلى الآخرين ولا أتساءل عمن يملأ نقصانها''. فمن يملأ مكانك يا شعبان زروق اليوم، بعد أن منحت حياتك للآخرين؟


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)