الجزائر

هل عاد النظام الذي لم يذهب



هل عاد النظام الذي لم يذهب
كثير منا يتحدث عن عودة نظام مبارك، والبعض الآخر يتخوف من عودة الدولة الأمنية، والبعض الثالث يتحدث عن أن 30 يونيو قامت لشطب 25 يناير، وافترض بعضنا أن النظام الذى يخاف من عودته قد ذهب فعلا مع سقوط مبارك. والحقيقة أن ما جرى فى مصر بعد ثورة 25 يناير كان سقوطا لرأس النظام، وتصور البعض أنه يمكن فقط بالفعاليات الثورية والصوت الاحتجاجى تحقيق أهداف الثورة في العيش والحرية والكرامة الإنسانية، ونسينا أن المرحلة الثانية والأساسية في نجاح أي تجربة تغيير تتوقف في القدرة على بناء نظام جديد يفكك بشكل تدريجي مرتكزات النظام القديم. والحقيقة أن تصور البعض أن النظام القديم قد عاد، رغم أنه لم يذهب، يرجع إلى وجود تصور بأن معيار النجاح يتمثل فى استبعاد رموز مبارك ورموز مرسي، وأن النظام الجديد يعني فقط جلب وجوه جديدة شاركت في الثورة أو حسبت عليها، حتى لو لم تكن لديها أي رؤية لإصلاح المؤسسات القديمة وبناء بديل جديد. والواقع أن القلق من عودة بعض من شاركوا في العمل العام في عهد مبارك إلى مواقع السلطة الجديدة في مصر لا يعني فى الحقيقة عودة النظام القديم، الذي بقي من خلال استمرار المنظومة القديمة التي لم يغيرها أحد، ولا كون عودة الدولة لممارسة دورها يعنى عودة الدولة الأمنية، فهذه العودة جاءت بعد غياب وضعف غير مسبوق في التعامل مع الخارجين عن القانون والبلطجية، أو حملة الحجارة والمولوتوف، أو حملة السلاح الآلي وحارقي الكنائس والمنشآت العامة والخاصة، وأن عودتها صارت أملا لدى كثيرين بعد أن رأوا الميليشيات الإخوانية تحاول أن تحل مكان الشرطة (أو تأتي على أنقاضها)، وشعروا بخطر السقوط الحقيقي فى عصر لا دولة ولا حكم. إن عودة النظام القديم ليست مرتبطة بعودة الدولة للقيام بمهامها، حتى لو قامت بهذه المهام بطريقة قريبة من الطريقة القديمة (لم تعرف غيرها)، إنما تتمثل في الفشل في إنجاز توافق سياسي من أجل البدء فى عملية إصلاح جراحي وحقيقي لمؤسسات الدولة، فيما عرف فى التجارب الناجحة ب«الإصلاح المؤسسي". والمؤكد أن تصور البعض أن سقوط نظام مبارك الشائخ أو ما سبق وسميته "لا نظام" هو نهاية المطاف، واعتبار الثورة هدفا وليس وسيلة لتحقيق إصلاح سياسي وتقدم اقتصادي، وتصور أن مصر حققت كل أهدافها باستمرار الصوت الاحتجاجي (شرعية الميدان والثورة مستمرة) دون امتلاك أي قدرة على بناء بديل سياسي، لن يحقق أي تغيير. والمؤكد أن أحد العوامل الرئيسية وراء الانتصار السهل للثورة المصرية يكمن في ضعف وهشاشة نظام مبارك، خاصة بعد حالة التجريف الشاملة التي فرضها على البلاد 30 عاما، وأن كل قيادات نظام مبارك، بمن فيهم قادة المؤسسة الوحيدة المتماسكة (الجيش)، كانوا قد تجاوزا سن السبعين وبقوا جميعهم في أماكنهم مرؤوسين لمبارك 20 عاما، ما جعل شرعيتهم فى الشارع محدودة وقدرتهم على المبادرة معدومة، وهو أمر مستحيل أن تجده فى تجربة أخرى فى العالم، فديكتاتوريات أمريكا اللاتينية العسكرية الأكثر قسوة، بما لا يقارن من نظام مبارك، عرفت أنظمة قوية فيها قيادات صف ثانٍ وثالث دعمت بقاءها حتى النهاية وتفاوضت بشراسة مع قوى التغيير الجديدة، كما أن تجارب أوروبا الشرقية والبرتغال وإسبانيا كانت لحظة التحول الديمقراطي في وضع شبيه بمصر فى الستينيات (وليس فى عهد مبارك)، أي هناك نظام سلطوى ودولة قوية بها مؤسسات تعمل وتعليم جيد وصحة معقولة وجهاز إداري فيه حد أدنى من الكفاءة ودولة مليئة بالأسماء اللامعة والكفاءات القادرة على أن تقود البلاد نحو نظام جديد. إن "لا نظام" في عهد مبارك كان أقل استبدادا من النظام التونسي أو الليبي أو السوري، وتجلت "خيبته" في إضعاف الدولة وتخريبها في التعليم والصحة والإعلام والأمن والمواصلات والزراعة والصناعة، بحيث من المستحيل أن يحدث إصلاح حقيقي دون أن تنتقل مصر من حالة "لا نظام" إلى النظام. وجاء حكم الإخوان الأكثر "نظاما" وتنظيما من باقي القوى السياسية، ولم يهتم إلا بتغيير من هم على رأس السلطة، فأخرج رموز نظام مبارك ووضع رموز الإخوان، وزرع رجاله في كل المؤسسات، وأدار معركة التمكين وليس الإصلاح، فكان سقوطه مدويا بعد أن رفضه الشعب والدولة معا. ورغم أن الجماعة حولت خطابها بعد أن وصلت للسلطة من جماعة محافظة إلى ثورية في مشهد غير مسبوق في أي تجربة أخرى في العالم، فالثوار يكونون كذلك قبل الوصول للسلطة وليس بعدها، والمفارقة أن الإخوان لم يصبحوا ثوارا بعد الثورة مثل البعض، إنما ثوار بعد السلطة، وهو أخطر وأسوأ أنواع الحكم، لأنه يصبح مجرد مبرر لتكريس الاستبداد لأن يُعتبر المعارضون من الثورة المضادة، والدولة يجب تطهيرها من الفلول والفاسدين (أي من غير الإخوان)، وهي كلها مسارات بناء الدول المستبدة تحت دعاوى الشرعية الدينية أو الثورية.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)