الجزائر

هذه التحف



"ما يشالي ف يوم الحرب غير من كان أمعلم"كثيرا ما توقفت عند أمثال هذه اللآلىء الأدبية والفكرية التي تغنى بها أهل الطرب الشعبي في الجزائر العميقة. وكثيرا ما أنحيت باللائمة على أهل الطرب أنفسهم وعلى المنصتين إليهم، والسبب هو أنهم في مجملهم يرددون هذه الصور والكلمات الجميلة دون أن يدركوا معانيها السامية، ودون أن يحسنوا الإنصات إليها. الشعراء الشعبيون على مدار القرون الأخيرة أبدعوا في تصويرهم الحياة اليومية والنفسية والاجتماعية بصورة عامة، ونحن تلقفنا تلك الإبداعات المختلفة ولم نقدرها حق قدرها.
كل الكلام الذي قيل في هذا الشأن جميل، وهو مرتبط باللغة العربية الأصيلة، ومشدود، إن صح التعبير، إلى حياتنا برمتها.
قصيدة "حيزية"، على سبيل المثال لا الحصر، للشاعر ابن قيطون، من أروع ما نظم من شعر في الحب العفيف. ولعل الذين سبقونا إلى هذه الدنيا تذوقوها أحسن مما نتذوقها نحن اليوم، والسبب هو أنهم كانوا أقرب منا إلى الحياة الجزائرية الأصيلة. فالشاعر الذي يبكي محبوبته وهي تنتقل إلى العالم الآخر، كان على صلة بتراثه الأدبي والفكري والتاريخي، بل إنه كان أقرب ما يكون إلى كبار شعراء العشق والشعراء العذريين في العهد الإسلامي الأول، ولذلك، جاءت قصيدته معبرة أصدق تعبير عما يختلج في وجدانه، وعما تصطخب به الحياة البدوية الجزائرية في أخريات القرن التاسع عشر.
أما قصائد ابن مسايب، والشيخ قدور العلمي وابن تريكة وابن سهلة، فهي من قمم الشعر الوجداني في تاريخنا الأدبي على مدار القرون الثلاثة الأخيرة، ولذلك، فهي جديرة بأن تدرس في الجامعات اليوم، لا لأنها تراث فحسب، بل لأنها تضم في طواياها الكثير من المعلومات الوجدانية والأنثروبولوجية في وقت غاب فيه التدوين بسبب الضربات التي تلقتها الجزائر في ذلكم الزمن.
وقصيدة "جيش التحرير أحنا مراناش فلاقة" التي نظمت خلال الثورة الجزائرية لا تقل أصالة وعمقا عن نشيد "قسما"، وكذلك قصيدة "يا محمد مبروك عليك" وقصيدة: "من دماء القلوب الغاضبات" التي كنا نغنيها في عز الثورة الجزائرية، ويمكن أن توصف حقا وصدقا، بالقصائد العصماء لأنها كانت في متناول أسماع الناس ومستوياتهم الذوقية والمعرفية.
وما زلت أذكر إلى حد الساعة كيف أن قصيدة "القهوة والشاي" الشعبية التي غناها المطرب الحاج أمريزق، كيف كانت تستولي على ألباب المنصتين إليها خلال الخمسينات بالرغم من بساطة كلماتها وصورها البديعة.
حقا، الأدب العربي جميل جدا، بل، ويمكن القول دون شوفينية، ليس هناك أب آخر يدانيه في الأدب العالمي، ولكن الأدب الشعبي، ذلك الذي كتب باللغة المحكية أو الدارجة لا يقل روعة عنه في هذا الشأن، ولذلك، من حقنا أن نلتفت إليه، وألا نعتبره مندرجا ضمن الفلكلور وفقا للرؤية الغربية في هذا المجال. نحن في حاجة إليه وهو في حاجة إلينا، لأننا في حاجة معا إلى تاريخنا الماضي والحاضر والقادم.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)