الجزائر

نهاية التدوين الثالث



نهاية التدوين الثالث
يعبر مصطلح ”التدوين الثالث للإسلام” عن عمليات الصياغة المعاصرة للإسلام التي ابتدأت منذ أوائل القرن التاسع عشر، وقدمت منظومة هائلة من التطبيقات والدراسات والمؤسسات والجماعات والأنظمة الجديدة التي أعادت تقديم الإسلام على نحو استوعب التحولات الاقتصادية والسياسية والعلمية التي سادت في الغرب وشملت عالم الإسلام، وهي جهود شارك فيها علماء ومفكرون وأساتذة وباحثون وطلبة دراسات عليا بالتحالف مع أنظمة سياسية ومؤسسات علمية وتعليمية واقتصادية، وأنتجت في محصلتها منظومة هائلة من الدراسات والمناهج والبرامج والمؤسسات والتطبيقات ”الإسلامية” في التعليم والإعلام والبنوك. وبالنظر إلى المآلات التي وصلت إليها هذه العمليات فقد دخلت وأدخلت العالم الإسلامي في حالة من من الكراهية والانتحار!ولم يعد ممكناً النظر إلى مواجهة هذه الحالة في عالم العرب والمسلمين اليوم في معزل عن المنظومة الإسلامية المنشئة لها برغم ما في ذلك من مغامرة؛ ذلك أن الأنظمة السياسية والجماعات والمجتمعات والشركات تصير حتماً في مواجهة مع الذات، ولكن مواجهة التطرف لن تكون فاعلة أو ناجحة من غير هذه المواجهة، ولم يعد أمامنا حكومات ومجتمعات وأفراد سوى أن نكف عما نحسبه مكافحة للتطرف مما لا يعدو كونه هجاء المتطرفين، أو نضيف إليه إعادة النظر في المنظومة المنشئة لتصوراتنا وتطبيقاتنا الدينية والتي نتشارك فيها مع المتطرفين ولا نكاد نختلف عنهم في فهمها وتطبيقها في شيء يذكر.والحال أن كل أو معظم ما بذل في المواجهة الفكرية والأيديولوجية مع المتطرفين يتحول إلى نتيجتين: أرباح صافية للمتطرفين، أو يجعل الدول وحلفاءها يظهرون وكأنهم في مواجهة مع الإسلام وليس مع المتطرفين! ولم تعد ثمة فرصة للخروج من دوامة الكراهية والتطرف والعنف سوى إنشاء مدونة جديدة ”رابعة” للإسلام في مواجهة مدونة أخرى.المدونة الثالثة التي تعمل بموجبها الجماعات وامتد تأثيرها إلى المؤسسات الدينية والتعليمية والمجتمعية تقوم على إضفاء الطابع الإسلامي ”الأسلمة” والشرعية على كل مجالات الحياة في الحكم والتعليم والأسواق والإعلام والسلوك والفنون، فيكون كل ما عداها ليس إسلاماً أو خروجاً على الإسلام، وتقديم هذه البرامج والتطبيقات الشاملة في دليل عملي واضح ينتقي من المصادر التقليدية ويستبعد الفلسفة والفنون وأوعية التدين الروحي والشعبي والمؤسسات العلمية والمذهبية السابقة.وتكون المواجهة بطبيعة الحال مدونة جديدة ”رابعة” تعيد صياغة المحتوى والمبادئ التي قامت عليها المؤسسات الدينية والتعليمية والاجتماعية والإعلامية والثقافية بحيث تنشئ استراتيجيات بديلة وجديدة للمحتوى الديني وفلسفته وأهدافه واتجاهاته، وتؤسس لبيئة فكرية ودينية واجتماعية جديدة تقوم على الأفراد والمجتمعات وليس الحكومات والمؤسسات والجماعات، وعلى علاقات جديدة ومختلفة بين الدين والدولة والمجتمعات والأفراد.هي مدونة يمكن إجمال فكرتها وفلسفتها في أنها تنبذ الكراهية وتؤصل لعلاقات الأفراد والمجتمعات والعالم على أساس من التعاون والتقبل المتبادل لجميع الناس والأمم والحضارات والأفكار، واحترام التعددية والتنوع، والإعلاء من شأن العقل والفلسفة والمنطق والمناهج العلمية والفكر الناقد والفنون والإبداع، وتميز بوضوح وحسم بين الديني والإنساني، وتقدم نفسها على أساس من الأنسنة والنسبية وعدم اليقين والقابلية الدائمة للمراجعة والتصحيح وليست على أنها من عند الله.وتتبع ذلك حتماً إعادة صياغة مسألة الدين والدولة باعتبار الأنظمة السياسية والاقتصادية والإدارية والمناهج التعليمية منظومات إنسانية قابلة للاجتهاد والاقتباس والمراجعة والتطوير، وتظل منظومات علمية وإنسانية غير مقدسة وغير ملزمة دينياً للدولة والمجتمعات.ثم وعلى المستوى المجتمعي والفردي إعادة النظر في جميع المؤسسات والتطبيقات (الإسلامية) مثل البنوك والمدارس والكليات والفنون والآداب واللباس والطعام والسلوك الاجتماعي وأسلوب الحياة لأجل تحويلها إلى منظومات إنسانية غير مقدسة، تقتبس من العالم وتعطيه أيضاً على أساس من التبادل والتنافس، وإعادة توجيه الإسلام الشعبي نحو الاتجاه الروحي والعلمي، وفي ذلك تمكن مساعدة الأفراد والمجتمعات على اكتساب تدين يرتقي بتطلعات المتدينين الروحية ويعلمهم الدين على أسس علمية صحيحة، وتجنيب الأفراد والمجتمعات التديين السياسي أو التوظيف السياسي والاقتصادي للدين ليكون مورداً روحياً واجتماعياً يخلو من المصالح والعيوب.سوف تخسر السلطة السياسية مصدراً للدعم والشرعية الدينية، وتحتاج إلى وقت لتكريس علاقة جديدة مع الدين تكون مقبولة في المجتمع وفي أوساط المتدينين، ولكن وعلى أي حال لم يعد ذلك خسارة كبيرة بعد أن نجحت الجماعات الدينية في تحويل الشرعية الدينية لمصلحتها، ولم يعد مجال في الحقيقة سوى التضحية بهذه الشرعية (الضائعة) والعمل على تأسيس شرعية سياسية وقانونية ودينية جديدة ومختلفة،.. وهي وإن كانت مغامرة فلا مجال إلا لخوضها.




سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)