الجزائر

نـظرة حادة إعادة الدولة إلى الشارع


  أعتقد أن المهمة الأولى التي على الجزائريين أن يبادروا للقيام بها، عاجلا، هي إعادة الدولة إلى الشارع، الدولة المهابة، الحاضرة، المنظمة للسير الحسن للمجتمع، وبشكل خاص تلك الدولة التي توفر الأمان لمواطنيها. هذه الدولة لم تعد موجودة في الشارع. يبدو وكأن الناس شقوا عصا الطاعة، كما يقول التعبير العربي، ولم يعد أحد يولي اهتماما لوجودها. إن مظاهر الاضطراب والخوف والفلتان الأمني والاستهانة بالقانون وبالإنسان... لم تعد خافية على أحد.
أصبح غياب الدولة حديث الناس في كل مكان. وقد تجلى هذا الغياب في هذه الفوضى العارمة التي أصبحت مظهرا من مظاهر حياة الجزائريين، يتصرّف فيها الناس على هواهم، دون احترام للآخرين، ولا احترام لرموز الدولة التي فقدت رمزيتها في الشارع، أصبح القانون فيها يفرضه بالذات الخارجون عن القانون. الشرطة المأمورة تقف على الحياد، وكأنها غير معنية بما يحدث أمامها، بل تشجع الناس على حل مشاكلهم بأنفسهم، ومن الطبيعي في هذا الوضع أن يأخذ القوي حق الضعيف، وتصبح العلاقات الشخصية مع ''الكبار'' هي ميزان العدل والحق، ويسود قانون الغاب.
مظاهر هذه الفوضى متعددة، ليس أقلها ظهور العصابات المسلحة بالسيوف والعصي والجرأة على النظام العام وغلق الطرقات والأحياء أحيانا، وإنما الاستهانة بكل تنظيم وإدارة وجدية في العمل والاحتكام للقانون... إلخ، مما يدفع بالجزائري إلى البحث عن حقه وتحقيق مصالحه بطرق غير سلمية، تنعكس في نهاية الأمر سلبا على الآخرين. صحيح أن النظام خائف من أي حركة تنزل إلى الشارع، بل أعطيت أوامر لأجهزة الأمن لتحاشي الاحتكاك بالناس قدر الإمكان، وتفادي أي مواجهة معهم قد تتحوّل إلى عصيان عام، ذلك أن النظام يعرف أن الظروف المحيطة به لا تسمح له بالحضور القمعي الذي لا يعرف غيره. كما أن أعصاب الناس مشوكة بالنظر لظروف حياتهم الصعبة، وهي لا تحتاج سوى لشرارة كي تشتعل... هكذا يبدو أن الخوف قد انتقل فعلا إلى معسكر النظام، كما قال د. بن بيتور في مقال سابق في جريدة ''الخبر''. لقد عوّدنا هذا النظام على حضوره القاسي دائما. فبدل أن ينظم الأسواق ويساهم في حل مشاكل البطالة بين الشباب مثلا، يذهب مباشرة إلى طرد الباعة من الأرصفة على اعتبار أنهم سبب الفوضى، وهم على العكس حل من حلوله التي طالما شجع عليها لتفادي الحلول الجذرية. أين يذهب أولئك الباعة؟ وكيف يعيشون؟ الحل، في اعتقادي، هو التنظيم وليس الطرد. نحن لا نتحدث هنا عن المبادئ الكبرى للدولة، التي تبقى حبرا على ورق، ولا تنتهي الثرثرة حول صلاحيتها، وإنما نتحدث عن الآليات البسيطة والعملية التي تتحكم من خلالها الدولة في مجتمعها وتنظمه، وتفرز فيه الخبيث من الطيب، ويصبح الإحساس بالأمان (وليس أجهزة الأمن) هو الذي ينظم سيره الحسن. إن حديثنا عن حضور الدولة لا نعني به القمع والسيطرة وتحريش الشرطة على الناس، وإنما السهر على أمان الناس وتأمين مصالحهم، والتحكم في إدارة شؤونهم، والاحتكام للقانون وليس للقوة والسلاح... هذا الحضور أصبح ضروريا وعاجلا. صحيح، أنا شخصيا من أولئك الذين يؤمنون بمبدإ ''أقل ما يمكن من الدولة وأكثـر ما يمكن من إنسان''... غير أنه من الضروري أن يتوفر ذلك الإنسان على مقاييس المسؤولية الإنسانية، حتى يصبح وجود الدولة غير ضروري أو بأقل ما يمكن من حضور.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)