الجزائر

نظرة حادة دروس في الحياة


 كان لي أحد الأصدقاء أسميه أستاذا في علم الحياة، كانت له موهبة كبيرة في رؤية الأشياء بواقعية. درّس في بعض مراحل عمره الرياضيات، وكتب في مراحل أخرى بعض الأدب، وساهم بنشاط في بعض الجمعيات المدنية، ثم اختفى من المشهد.
بعد سنوات طويلة عرفت أنه فتح دكانا لبيع المواد الغذائية العامة واكتفى بمصروف الجيب.
فاجأني هذا الأسبوع بمكالمة هاتفية كريمة منه، لخَّص لي فيها حياته: تركت تدريس الرياضيات حين فقد هذا الشعب كل مفهوم لمبادئ الحساب والمنطق وأصبح الخطان المتوازيان لا يلتقيان إلا بمشيئة الله! وهجرت حرفة الأدب حين فَقَدَ معناه ولحقت هذه الحرفة بمن لا أدب لهم، وجمّدت نشاطي في الجمعيات المدنية حين لم يعد لها من المدنية سوى حساب المال والامتيازات التي يَتسوّلونها على باب الحكومة. والآن، نحن نعيش في عصر المواد الغذائية العامة (أي المواد الرخيصة لتغذية عامة الشعب!؟) فاكتفيت في حياتي بالصبر ومصروف الجيب!؟
هذا الرجل تعلمت منه قاعدة ذهبية في علم الحياة وهي أن تربية الشعوب تراها في الشارع، لا داعي للبحث عنها في الكتب ولا في التاريخ ولا في الخطب السياسية الكاذبة. إذا كان شعبا له مبادئ حضارية ستراها في سلوكه وتعامله مع الآخرين، وأهم هذه المبادئ إطلاقا - حسبه - هي التسامح. وضرب مثلا: كيف نعرف أن الشعب متسامحا؟ وأجاب: من خلال السياقة.. وراء مقود السيارة يُعبِّر الإنسان بأفضل الطرق عن مكنوناته، ونحن يظهر علينا في الطريق أننا شعب عنيف، مستعجل، أناني، لا يحترم الآخرين ولا يخضع لأي قانون سوى عصا الشرطي.. والذي لا يعرف الأولوية في الطريق لا يعرفها في السياسة ولا في العلم ولا في الأخلاق...
بعد سنوات فهمت أن الشعوب التي لا تعرف كيف تجتاز مفترقات الطرق، ولا تترك الأولوية للذين يستحقونها، يشيخون بسرعة في الازدحام!.
صديق آخر من طراز رفيع اسمه علي سراوي، كان صحفيا من ذلك الجيل الذي لا يرضى بالقليل، عاش جزء من حياته في المعارضة، وباقي حياته في الأعمال. لعل الذين يذكرون مجلة ''عالم السياسة'' يتذكرون أي عقل كبير كان يقف وراءها، كان رجلا ثاقب النظر يبصر ما وراء المرئيات.
هذا الرجل الذي لا ألتقي به إلا بالسنوات الضوئية. وقفت معه في يوم من أيام سبتمبر في مطلع التسعينيات بشارع العربي بن مهيدي أمام مقر المجلة يومذاك. كان حزينا وقلقا، نظر إلى الشارع وهو يموج بالبشر والسيارات والفوضى، ثم نظر إليّ قائلا: وكأنني في القاهرة في بداية الثمانينيات.. والله لا أتمنى للجزائر ذلك المصير!؟
فيما بعد، ربما خمسة عشرة سنة، كنت مع الشاعر المصري الكبير أحمد الشهاوي نتجول في شوارع القاهرة، وطرحت عليه سؤالا: منذ متى وصلت الأوساخ والأكواخ إلى قلب القاهرة؟. قال: منذ عشر سنوات تقريبا.. منذ أن لم تعد لنا حكومة! قلت حزينا وكلمات الصديق علي سراوي في ذاكرتي: بعد عشر سنوات ستكون الجزائر هكذا.. والله لا أتمنى لبلدي هذا المصير!؟ وها أنا، منذ أن لم تعد لنا حكومة، أمرُّ كل صباح على الأوساخ والأكواخ في قلب العاصمة!
صديق آخر أخذت منه درسا لا ينسى، وهذه المرة شاب في الثلاثين من العمر، متخرج من جامعة باب الزوار بامتياز، حاصل على الماجستير في العلوم التكنولوجية، وجدته يعمل حارسا لموقف سيارات. اندهشت لمصير شاب على هذا القدر من العلم والأخلاق وسماحة الوجه، أن تقهره الحياة في هذا البلد إلى حدِّ رميه في قمامة هذا الموقف. ابتسم الشاب وقال بفرنسية راقية: ليس امتيازا أن تكون مبصرا في بلد العميان!؟
تذكرت قول المتنبي العظيم:
ذو العقل يشقى في الحياة بعقله... وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم.
قلت في نفسي يبدو أن قدر العرب منذ قديم الزمان أن ينعم الجهال بحياتهم والعلماء يموتون حسرة وقهرا. غير أن أعظم درس سمعته من شاب مخدّر، موسخ، هامشي، كان يبدو فاقدا لكل إحساس وهو يقطع الشارع أمام سيارات مسرعة. أوقف صديقي سيارته بصعوبة كي لا يصطدم به. مر الشاب بهدوء ونظر إليه فرأى الانزعاج على وجهه، فقال له ساخرا: ''تبسّم يخرج السم''... ابتسم صديقي وعلق ضاحكا: يوجد في سطل الماء ما لا يوجد في البحر!؟ 


aghermoul@hotmail.com


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)