الجزائر

نظرة حادة مساهمة في نقاش غير مفيد



 تُهرول وزارة الاتصال هذه الأيام في كل الاتجاهات بحثا عن أفكار تدور في رؤوس أهل المهنة، وتسمي ذلك استشارات المعنيين بالطبع، وتمنح وعودا للذين يصدقونها، أنها عازمة على الارتقاء بهذا القطاع، وإعادة النظر في قانون المهنة المجحف والمُذلّ لسمعة الجزائر الديمقراطية. ومن الواضح أن ذلك ليس ترضية لهم وإنما ترضية للرئيس الذي قرر أن يعيد النظر بطريقته الخاصة جدا في هذا القطاع المزعج.
دعونا ننظر للوضع الميؤوس منه بشجاعة الطبيب الجراح المضطر للاستعمال ''البيستوري''.
أولا، قطاع الإعلام مريض بسبب السياسة وليس بسبب المهنة، فالحسابات السياسية غير البريئة جعلت منه طوال العقد الماضي حصان طروادة تمرر في بطنه ما تشاء من عداوات وأوبئة ووعود لا تحترم... ترفعه من جهة كدليل على حرية التعبير عندها، وتبتزه من جهة أخرى بالإشهار والمغريات غير المهنية.
ثانيا، تعمد إغراق قطاع الإعلام في فوضى، وذلك بالسماح للكثير ممن لا علاقة لهم بالمهنة أن يُنشئوا نشريات (يسمونها جرائد) ومنهم مقاولون ومضاربون في أسواق الجملة وأصحاب أموال مشكوك في مصادرها ومتهربون من الضرائب.. وإعطائهم منشّطات من نوع الإشهار، وتسهيلات في الطباعة، وغض الطرف الضريبي... الخ، من أجل أن يغرقوا الأصوات الناقدة في كم هائل من الغبار.
ثالثا، ابتزاز الصحف التي يديرها أصحاب المهنة إما بالموالاة، وبذلك تصبح مثل صحف القطاع العمومي، أو تتعرض لمضايقات، ومنها تسليط المخابرات والضرائب على رأسها لتركيعها. وهذه سياسة لا يمكن لإنسان عاقل أن يقترفها، ذلك أن النتيجة الحتمية لاستنساخ الدجاج هي المزيد من الدجاج المتشابه.
رابعا، لا أفهم حتى الآن لماذا يصر النظام على الإبقاء على قطاع عمومي وصرف أموال باهظة من الخزينة.. هل هو ضرورة لتوازنات لا نعرفها؟. أم لتزيين صورة الحكومة؟. في كلا الاحتمالين هناك خطأ غير محتمل، فلا قطاع الإعلام الحكومي يحقق توازنات في الرأي وحرية التعبير، وهو كما نشاهد بلا رأي ولا حرية، ولا هو من مهامه تنظيف وجه الحكومة (وماذا تفعل مصلحة نت كوم إذن؟!)، ومع ذلك لم تستطع ثمانون يومية تتغذى على تبذير الخزينة أن تنظف صورة أويحيى مثلا.
خامسا، على العكس، لا نجد لدى الدول المتطورة قطاع إعلام حكومي على الطريقة الجزائرية. ففي الغالب تختار الحكومات وسائل إعلام قوية لها مصداقية، تفتح لها مصادر الخبر وتزودها بآرائها وبرامجها، وقد تساعدها إن تعرضت لأزمة مالية، ليس شراءً لذمتها، وإنما لحماية رمز إعلامي من رموز الأمة.
سادسا، كيف يمكن لحكومة سليمة العقل أن تحتكر الإشهار بدعوى أنه أموال عمومية لا تقدم للخواص (هكذا؟) بينما تصرفه على صحف غير مقروءة أصلا.. هل الخزينة العمومية ملك شخصي للحكومة كي تستعمل أموالها في شراء الذمم؟. وهل الصحف المستقلة أجنبية أو عدوة؟ ثم من يا ترى يطلع على إشهار منشور في صحف غير مقروءة؟ أم أن مساواة فرص النجاح في رأي الحكومة هو المساواة في الركوع على عتبة قصرها؟ أم أن هذه الحكومة تشرع قوانين لمعاقبة الناجحين؟
سابعا، قد لا يفهم بعض القراء حيثيات قرار رئاسي من نوع مراجعة قانون الإعلام وإلغاء أحكام سجن الصحفيين، ومرونة أكثر في إعطاء الاعتمادات لصحف جديدة... الخ. فهذه بالطبع ليست هدية ولا انفتاحا مفاجئا من طرف نظام بوتفليقة على المطالب الملحة لأصحاب المهنة، بل تسوية سياسية (إن لم نقل خبيثة) لتصفية القطاع من كل الأصوات غير المستحبة. فمن الواضح أن قانون الإعلام المعدل لن يحتوي مثلا على حريات أوسع ومنها تحرير قطاع السمعي البصري. أما إسقاط عقوبة سجن الصحفيين فللتخلص من التبعات السياسة لسجنهم، بدليل أن الإبقاء على الغرامات المالية المرتفعة وراءه نية تدمير الصحفيين والصحف ماديا.. ومن يا ترى سيستفيد من حرية إنشاء صحف سوى أصحاب ''الشكارة''.
ثامنا، في هذا النقاش غير المجدي يمكن أيضا أن نطرح دور وزارة الاتصال في حد ذاته، فهي مجرد جهاز بيروقراطي بدون مهمة، بل هي آلية حكومية غير مهنية مسلطة على رؤوس أصحاب المهنة، وأعتقد أن العودة الى فكرة ''مجلس أعلى للإعلام'' والذي يقوده منتخبون من أهل المهنة سيكون أكثر حكمة.
تاسعا وعاشرا، بناء على كل ما تقدم، نستنتج أن هذا النظام لا يزال مُصرا على تبذير الوقت والمال العام لمراوغة المطالب المُلحة لتنظيف هذا القطاع من كل ما شوَّه صورته في السنوات العشر الماضية، ولكن.. ما الداعي للنقاش معه إذا كان راكبا رأسه.

aghermoul@hotmail.com





سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)