الجزائر

نانّا مريم



ارتبطت طفولتي الفقيرة بثلاث جدّات رائعات تعلمت منهن كيف أنظر إلى الكون بعشرات الأعين المشرئبة: أم الوالد، وأم الوالدة، وجدّتي مريم، ذلك اللغز الذي لم أفهمه إلى أن كبرت كثيرا. الحقّ الحقّ أقول: لقد أسهمت كلّ منهنّ في تعليمي ما يشبه الحكمة وحبّ الفقراء. كنّ فقيرات كفئران الكنيسة، لكنهنّ ظللن مجلّلات بقناعة لا تنضب، وكانت تلك القناعة سرّ سعادتهن الغريبة التي ستقودني لاحقا إلى الطمأنينة والقلق معا.كنت مطمئنا قانعا بقدري لأني نشأت في ربوعهن المجلّلة بالحكايات الخالدة التي لم تنضب، وقلقا لأني لم أنسجم مع محيط ذئبي يأكل ولا يشبع أبدا، محيطي الجامعي والثقافي الذي بدا لي متوحشا، مقارنة بحياتي الصغيرة في قرية تاكسانة حيث ولدت ذات شتاء، بلا سبب واضح. ومع ذلك حاولت أن أتظاهر بأنّي مخلوق سعيد فوق العادة في هذه الأجواء الجديدة التي تهتم بالشعر والسرد والنقد والأيديولوجيا.
ذهبت الجدّات الثلاث إلى المقبرة قبل سنين خلت وأخذن حكاياتهن التي بلون التوت إذ يستيقظ باكرا ويرسل حنينه الضيعة الصغيرة التي آوتنا بود ومحبة، وإلى صباحات القرية البسيطة التي تبدلت مع الوقت وغدت سؤالا. لم يعد نعناع قريتنا مجتهدا كعادته في جبل صندوح الذي يحرس القرية من علوّه الشامخ، يشمّر على أريجه ويثب مثل الأفكار الصغيرة في كراريس الإنشاء التي نضجت باكرا جدا.
إنّي مدين للجدات الثلاث في كتاباتي وفي جملي النحيلة التي تكاد تفقد الوعي في هذه السياقات التي لم أتأقلم معها أبدا. ربما لم أكتب عنهن كفاية، لكنهن منتشرات في نصوص كثيرة، كعطر الملائكة. لم يحدث أن نسيتهن طوال حياتي القلقة. كنّ دائما يرفرفن في الذاكرة، بأصابعهن المتربة، المتشققة، عكس أصابع الجدات الأخريات اللائي لم يعرفن سوى المدن وأضوائها، الجدات المحظوظات قليلا أو كثيرا. لم تكن في قريتنا كهرباء في تلك الأزمنة. كانت هناك قناديل وشموع عمشاء عن آخرها، وكانت حكايات الجدات هي التي تضيء ليلنا. البهيم هكذا كبرنا ممتلئين بالخرافات والأساطير، وبالبساطة التي غرستها فينا الجدات الفقيرات، تلك المخلوقات التي لن تعود أبدا.
لم تكن جدّتي مريم امرأة عادية كبقية العجائز الأخريات اللائي التقيت بهن في الدوار، ثم في المدن اللعينة التي لا شكل لها ولا وجهة. وهل يجب أن أقسم بأنّها كانت نورا صغيرا بيدين نحيلتين، أو بزهرتين! لا أذكر أنّي صادفت في حياتي مخلوقة تشبهها، تسرد مثلها، كما لو أن الله خلقها لتكون علامة نادرة في حياة القرية، ومرجعا للعائلة التي ظلت تنظر إليها بإجلال كبير لأنها لا تغضب، لا تثرثر، لا تكره الناس ولا تتحدث عنهم أبدا، لا تتخاصم، لا تجوع، ولا تطلب شيئا من هذه الدنيا، ولا من الناس.
كانت نانّا مريم مضيئة مثل الصوفيين القدامى الذين عافوا سفاسف الأشياء وانخرطوا في الوهج الأعظم لأداء صلوات الحبّ والسكينة في عوالهم البعيدة، ولم تكن تهتمّ بالقوت والمال وخصام النساء في الأعراس والمناسبات والأعياد الدينية، أو بسبب الخلافات اليومية التي كانت تطبع حياة الناس التعساء، كما لو أنها كانت من عالم آخر، غير هذا العالم السفلي الذي لم يكن يليق بمقامها الجليل.
كانت توثر على نفسها وتخبئ لي يوميا بعض التمر اليابس والسكّر في منديلها لتتغذى سنواتي الخمس، ثمّ السّت والسبع فيما بعد، وفي المساء تجمعني في حجرها الدافئ حيث تعبق رائحة فستانها المهلهل، المرقع من كل الجهات بقطع من القماش الملون، تربت على روحي وهي تزهر حكايات وابتسامات لا أدري إن كانت تخبئها في الرأس الأبيض المليء بالأسرار، أم في أكياس التّين النائمة في المِذْوَدِ حيث الماعز والبقرة، وحيث التبن ورائحة الحيوانات التي كانت تعيش معنا في الغرفة نفسها.
مع الوقت اكتشفت أنّها ليست جدتي الحقيقية، أمّ والدتي كما اعتقدت خطأ، كانت زوجة جدي الثانية، وكانت تعيش في بيت أخوالي حيث تربّيت يتيما تقريبا، وفقيرا بالجملة، لكنّي ما فتئت أقتات بأحاجيها وطاقتها السردية التي عبّأتني بخيال سينمو معي وينكسر لاحقا، مخلفا في كل صفحة بكاء الطفولة وعلامات الجدّة الراحلة، تلك التي آوتني وأطعمتني عندما كنت في حجم وسادة لا شأن لها في الكون.
في الحياة رأيت هنا وهناك نساء كثيرات يرتدين ملابس زاهية، ولهنّ أقراط من ذهب، وبحثت في عيونهن عن مريم أخرى تعرفني ولم مرّة واحدة في السنة، بحثت في الأسواق والدّور القديمة التي مررت بها، وتحت الحجارة. عبثا حاولت العثور على مرايا الله في أرضه، وهكذا قرّرت أن أصنع لي مريما أخرى تحبني وأحبها، تفعل بي ما شاءت. تجعل من عمري رزمة حطب وتحملني على ظهرها إلى أي كوخ طيني ثم تشعلني عساني أضيء النفوس المظلمة التي أطفأت عينيّ بخطاباتها المملة. كلّ الجدات جميلات، لكن جدتي...
كيف لم أركز في كتاباتي على هذه الشخصية التي لن تتكرر ثانية في هذه الجغرافيا الهزيلة؟ ربما تغافلت عنها أعواما لأني فسدت عن آخري، أو كدت أفسد جملة وتفصيلا بسبب اللعنة. أغوتني المدن العليلة بأسمنتها ونظرياتها، بضجيجها واستعلائها على موضوعات ظللت أنظر إليها باحترام لا مثيل له. القصص التي وردت فيها نانّا مريم هي أجمل القصص التي كتبتها، وأصدق النصوص على الإطلاق لأنها نظرت إلى الواقع بعينيها الغائرتين. ربما كان علي العودة إليها لأفهم علامات جبينها المجعد وأكتب شيئا جيدا، أفضل من الكتابة عن الساسة والمثقفين والكتاب والشعراء، أفهم ما تقوله تجاعيدها الراقية، نظرتها الغامضة، حركاتها، أصابعها الرائعة التي جللها التراب والشمس أثناء الاستعمار وبعده، وجعلها الفقر نبية من البؤس والخشوع والحب والصلوات الملائكية.
يا فالق النوى: كيف حال جدّتي هناك في سمائك الواسعة؟ إنّي أرى في الأفق جدّة صغيرة بحجم الخنصر. وها إنّي أنتظر هنا في الطابق السفلي من الجحيم لعلها تسطع كعناقيد الكرز وترضع قصصي القصيرة التي لم تعد تخبئ متاعبي من فرط الهزال والوحدة. كأن يتم الجملة ظهر مع رحيلها المفاجئ قبل سنوات، لذلك لم أعد أكتب جيدا.ما عدت بسيطا كالعادة، أسمع ما تقوله بسردها الراقي، أنقح وأزيد، وأدوّن ما تيسر من التجربة المريرة التي مررت بها منذ الطفولة، إلى غاية السنين القادمة.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)