الجزائر

مقتطفات من كتاب شتات الذاكرة



مقتطفات من كتاب شتات الذاكرة
شتات الذاكرة ...!
ها هي محطة أخرى من الحنين تقرصني لإستعادة ذكريات الطفولة .. وتهمس في أذني أن لا جدوى من الإنتظار .. وعلى عتبة زاوية شيخ الميسوم "القطب الربانية" تضطرب بوصلتي وأتيه عبر تلك الأزقة .. التي لا تزال منسوجة منمقة تستر هذا العراء القبيح بداخلي .. وتستنفذ تلك الأماكن التي كانت تمطر حبا .. وعلى مدخل الحي يقابلك جامع سيدي عبد القادر حمرة .. وقد جعله لتعليم وتحفيظ القرآن .. واذا مااقتربت من الجامع .. وجدت أطفال الحي والأحياء المجاورة قد تحلقوا حول الشيخ لتحفيظهم القرآن الكريم ..ومبادئ اللغة العربية .. وقد صنف الصبية الى مجموعتين .. فئة الصغار الذين يلقن لهم الشيخ الأحرف الهجائية منفردة بنغم موسيقي فتراهم يرددون : "ألف لا نقاط عليه والباء نقطة من تحت ... " كما يعلمهم الى جانب ذلك رسم الحروف ..
أما الفئة الثانية فهم الحفاظ الذين ينتقلون من سورة الى سورة .. ومن جزء إلى جزء .. باستعمال الألواح الخشبية التي كان يكتب عليها بالسمغ الذي يصنع من صوف الأغنام التي تحرق ويضاف اليها كمية من الماء وقليلا من القطران .. وبأقلام القصب الحر التي قطت من طرف الشيخ بدقة متناهية ومهارة عالية ..
وقد كنا نتعلم على فترتين .. دوام الصباح و المساء .. وقد خصصت نهاية الفترة الصباحية لعرض ما تم حفظه على الشيخ .. وكم كانت فرحت أحدنا شديدة اذا ما أشار الشيخ بعصاه إلى الخروج لمحو اللوحة تحت أشجار الصفصاف المحاذية لبيت وجامع الشيخ باستعمال الماء وحجاره الصلصال .. كانت تمثل لنا هذه الفترة استراحة من عناء التكرار والحفظ .. ومن قساوة الحصير وما تركه على اجسامنا الغظة ..
أما في نهاية دوام المساء يتحلق الطلبة الذين تجاوزوا حفظ عشرة أحزاب وما فوق حول الشيخ ليقرأوا قراءة جماعية ..فتحدث نغمة. ينسجم. معها الكون كبيرة تصل الى خارج المكان وحتى الجيران .. واذا ما أراد الشيخ ايقاف القراءة ضرب بعصاه على الألواح الموجودة بجانبه فيتوقف الجميع .. فتشعر حينها كأنك أمام ضابط عسكري يعطي جنوده اشارة الاستعداد .. وأما اذا ما ظهر من أحدنا حركة أو تصرف غير لائق .. فإن عصا الشيخ الطويلة تطال الرأس مهما بعد ..
وكنا نعرف وقت انتهاء دوام المساء .. وذلك حين ينزع الشيخ عباءته ويحمل بوقال الماء ليتوضأ في مكانه المعتاد .. متخذا من صخرة الصفاح مقعدا ومن جذع شجرة الصفصاف متكأ ..استعدادا لاداء صلاة العصر .. حينها كانت تنطلق حناجرنا من الداخل مدوية .. مرددة أرجوزتنا المفضلة : " يا شيخ سرحنا ونسرحوك وفي الجنة ونفرحوك " .. فيلوح الشيخ من الخارج بيده مشيرا لنا بالخروج .. فنتسابق ليوضع الألواح في الزاوية المخصصة لها .. ونندفع نحو الباب كالسيل العرم .. نرتدي أحذيتنا ونتجه نحو الشيخ لتقبيل رأسه قبل مغادرته .. فإذا بك تسمع لسان الشيخ يلهج بالدعاء متمتما لنا بالحفظ والتوفيق في الدارين .. حينها يعظم الشيخ في عينك ويحتل مساحة كبيرة من كيانك .. فرحم الله الشيخ سيدي عبد القادر حمرة وأسكنه فسيح جناته ...
سليمان قعدة من كتابي شتات الذاكرة ..


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)