الجزائر

مشكلة "الأدبيات" الفرنسية حول تاريخ الثورة


مشكلة
نختم بهذه الحلقة حديثنا عن الدكتور المؤرخ الأديب أبو القاسم سعد الله .. هذا الحديث الذي تناول جوانب محدودة في لقطات سريعة، عن حياة الفقيد وعطاءاته الغزيرة المتنوعة.ولم تكن في هذا التعريف السريع بالرجل نطمح إلى الإحاطة الشاملة بجهوده، بل كان هدفنا تقديم لمحة عنه فقط، وكأية لمحة خاطفة لا يمكن أن تغطي الدكتور سعد الله الشاعر والناقد ومؤرخ الحركة الوطنية.. وصاحب موسوعة تاريخ الجزائر الثقافي...وبداهة أن هذا الغطاء الضخم والثري يغرينا بالعودة إليه بين الفينة والأخرى، كلما دعت الحاجة أو المناسبة إلى ذلك؛ لنغرف أكثر من هذا الكنزل النادر، ونساهم في التعريف به والترويج له..ولا شك أن غيرنا سيفعل ذلك أيضا، علما أن للرجل تلاميذ أوفياء ومريدين مخلصين..وتحمل الحلقة الأخيرة عناوين تدل على مضمونها مثل: غربة مؤرخ، المدرسة الإستعمارية في التاريخ، آهات عربية، آهات مثقف يتألم لواقع الوطن العربي، ويقاسم خاصة شعبنا في العراق وفلسطين وليبيا..أوجاعه... غربة مؤرّخنبدأ هذه العجالة بتقديم صورتين للدكتور الأديب المؤرخ أبو القاسم سعد الله:الأولى في أواخر الستينات من القرن الماضي، وهو عائد لتوه من الولايات المتحدة الأمريكية وكله تفاؤل وحماس، بعد فترة غنية من الدراسة والبحث والتدريس.كان يومئذ في عنوانه، لا سيما عبر المساهمة في تنشيط الندوات الأدبية والفكرية بقاعة النفق الجامعي (الجزائر)، كان يبدو مستعدا للعطاء بلا حساب، لجزائر واعدة متماشية مع مثل الإستقلال والحرية، والتحرر السياسي والإقتصادي والثقافي.الثانية الأحد الماضي (1) بمركز الحركة الوطنية والثورة بالأبيار، حيث بدا وهو يحاضر حول “التاريخ في حياتنا” متشائما خائبا. لأنه وهو في مغرب العمر، لم يستشرف بعد آفاق جزائر الأمير عبد القادر وعبد الحميد بن باديس، ولا مغرب عبيد الله المهدي وعبد المومن بن علي الكومي ويوسف بن تاشفين..فالدكتور سعد الله - الذي أثرى مكتبة تاريخ الجز ائر الحديث والمعاصر- لم يخف خيبته أمام تعثر مشروع الجزائر العربية الإسلامية، أسوة بمشروع المغرب العربي الكبير الذي يرى فيه شرطا لا بد منه، لإنبعاث هذا الفضاء الثقافي الحضاري الواحد الممتد من بنغازي إلى طنجة.- مغاربيا، نراه يعتب على حكام الساعة “إقامة اتحادهم على رمال متحركة ..انطلاقا من حسابات سياسية ظرفية” لا غير، وأيد المناضل عبد الحميد مهري - في تدخله أثناء المناقشة - المحاضر في عتابه، بالإشارة إلى أن تحضير الذكرى الخمسين لمؤتمر طنجة - أواخر الشهر الجاري- ما يزال يراوح مكانه، في انتظار الضوء الأخضر من هؤلاء الحكام!قطريا، يتساءل المؤرخ: أين جزائر الأمين عبد القادر وبن باديس؟ويحمل جوابه الكثير من المكاشفة المرة، عندما يلاحظ على سبيل المثال:1 - أن حكام الساعة كثيرا ما يجترون أسماء مثل هذه الرموز النيرة، لكن دون الإقتداء بمثلها، والعمل على تجسيد المبادئ التي عاشت لها وضحت في سبيلها.مثلا يحرض هؤلاء الحكام على تضمين دساتيرهم - المتلاحقة! - مبدأ “الإسلام دين الدولة”، ومع ذلك نراهم - في الغالب- يطبقون قوانين نابليون بدون تحفظ حسب قوله.2 - نرى هؤلاء الحكام يتظاهرون بالإهتمام بالتاريخ، لكن لا نكاد نلمس أثر الدروس وعبرة في سلوكاتهم اليومية.والأدهى أنهم ما انفكوا يحاولون احتكار كتاباته، الأمر الذي عرقل مبادرات ذوي الإختصاص.وأدى في نهاية المطاف إلى تيسير مهمة عدو الأمس، بالسبق في تدوين روايته، والترويج لها أحيانا بمساعدة وسائطه في دوائر الحكم ذاتها.3 - أن النتيجة المؤلمة لكل هذا الجحود والنكران - إن لم نقل شيئا آخر - أن أصبح ورثة مقاومة مثالية، وثورة عملاقة مثل الثورة الجزائرية يتساءلون: “من نحن؟”..غير أن الدكتور المحاضر وهو يبحث في أسباب هذه الإنتكاسة السياسية الثقافية، تحامل على “بقايا حزب الشعب الجزائري“ غداة الإستقلال، بالتأكيد على “تحالفهم مع أنصار المشروع الفرنكوفوني”. فالواقع التاريخي يبدو عكس ذلك تماما، فقد دخل “حزب الشعب - حركة الإنتصار” ملحمة التحرير الوطني عام 1954 منقسما، وخرج منها بالنتيجة عام 1962 مهزوما.وإذا اعتبرنا أن الحكومة المؤقتة الأخيرة (1961 - 1962) بقيادة بن يوسف بن خدة ، تحمل بوادر تكتل وطني لما بعد الإستقلال، فإن هذا الإحتمال ما لبث أن نسف غداة وقف القتال (19 مارس 1962)، جراء التحالف المضاد القوي المشكل من جيش الحدود وبن بلة، بمباركة فرحات عباس وحلفائه من جمعية العلماء.ومعلوم أن الإتجاه الغالب غداة الإستقلال هو اتجاه “الإشتراكية الرومانسية” (فترة الرئيس بن بلة)، هذا الإتجاه الذي أوشك - في عهد الرئيس بومدين - أن يتحول إلى “اشتراكية علمية”.هذا الإتجاه “غير المهضوم” - حسب تعبير المناضل مهري - ما لبث أن أصبح وسيلة إقصاء، كان الوطنيون في مقدمة ضحاياه، تحت شعار “الإشتراكية لا يبنيها غير الإشتراكيين” عكس شعار التيار الوطني الثوري الذي أعلن ثورة فاتح نوفمبر المباركة، تحت شعار “الجزائر يحررها الجيمع ويبنيها الجميع كذلك”... والحقيقة الساطعة أن خصوم المشروع الوطني في التحرر الكامل وإعادة البناء، استعملوا ضده “ الإشتراكية غير المهضومة في مرحلة أولى، قبل اللجوء في مرحلة لاحقة إلى - الإسلاموية - غير المهضومة كذلك.ونتيجة كل ذلك كما لاحظ الدكتور سعد الله بحق، أن بلادنا اليوم نسيج وحدها: “لا هي بالشرقية، ولا هي بالغربية”، وعلى صعيد اللغة، “لا هي بالعربية، ولا بالفرنسية”.(1) 20 أبريل 2008 المدرسة الإستعمارية في التاريخ للمدرسة الإستعمارية في التاريخ في نظري مفهومان: ضيق وواسع.المفهوم الضيق يتمثل في تشويه مؤرخي الإستعمارالفرنسي لتاريخ الجزائر بطريق مباشر، كنفي كينونتنا، وإبراز الفروق العرقية والجغرافية، وزرع الفتن والشقاق..الخ المفهوم الواسع يتمثل في تشكيك أولئك المؤرخين في انتمائنا الحضاري، وطمس معالمنا ومساهمتنا في التقدم البشري، والإساءة إلى قطبي حضارتنا وهما الإسلام واللغة العربية..الخ..ومن الواضح أن هذه المدرسة لا تقتصر على الكتابات الفرنسية، بل تشمل أيضا كل المؤرخين المؤمنين بالنظرية الاستعمارية؛ ف”هايدو” الإسباني، و”شيلر” الأمريكي، و” شو “ الانكليزي كلهم “استعماريون” بالمفهوم الواسع المشار إليه، يضاف إلى ذلك كثير من المستشرقين الذين كانوا ضالعين في ركاب الإستعمار، والمبشرين الذين كانوا أدوات لحكومات استعمارية، فكل هؤلاء يحملون أفكارا مضادة للحضارة العربية الإسلامية، وكانوا يؤمنون بالتفوق المسيحي والعرقي (الهندو أوروبي)، ويرجون لأسطورة يسمونها “رسالة الرجل الأبيض” .. الخ...ويجب ألا نفهم أن عقلية الكتاب الفرنسيين سنوات 1830 - 1900، هي نفسها عقلية كتاب سنوات 1900 - 1954، ففي العهد الأول سيطر الفكر المحافظ المسيحي العسكري، أما في العهد الثاني فقد سيطر الفكر الليبرالي اليساري المدني، صحيح أن العقليتين تهدفان إلى شيء واحد هو تثبيت أركان الإستعمار، لكن طرق المعالجة تختلف من عهد إلى آخر... وعندي أن تأثير المدرسة الفرنسية - القديمة والحديثة معا - سيبقى، مادامت الساحة فارغة من الكتابات التاريخية الجزائرية المتكاملة والمتناقضة. إذ لا يجوز أن نجد الآراء المتناقضة حول تاريخنا في الكتابات الفرنسية، ولا تجد في كتاباتنا إلا الأراء المسطحة الممضوغة.أن التناقض واختلاف التفاسير والنظريات هو الذي يخلق المدرسة الجديدة، وهو الذي يكسب تاريخنا الحيوية التي يعوزه حتى الآن.(من حديث أجريناه معه، ونشر بمجلة التضامن اللندنية مطلع 1988) سبق المهزوم لنشر “أدبياته” حول الثورةسبق الجانب الفرنسي إلى نشر أدبياته حول ثورة التحرير الجزائرية لا يثير الحرج فقط، لكنه ينذر بالخطر.إن الفرنسيين يكتبون أولا باعتبارهم طرفا في القضية، وثانيا باعتبارهم في موقع قوة .. أما نحن فإننا بالعكس قد وجدنا أنفسنا في صلب التاريخ، أو في دائرة ضوء التاريخ بعد أن كنا مهمشين تماما، كل شيء جديد تقريبا: التسجيل والحفظ والتحرير والإختيار والنشر والمناقشة إلخ ... إنها عملية مخيفة لمن لا دارية له. أننا نخشى الإقتراب من الوثائق، ونجهل كيف نستغلها، ولا نحسن الفرق بين ما يصلح للنشر الآن، وما لا ينشر إلا بعد جيل كامل.. وليس لدينا تقاليد في المجادلة والحوار والديموقراطية. ومازلنا نفضل السكوت ودفن الماضي، على الحديث والكتابة وكشف التجارب التاريخية.أن ما نخشاه حقا، هو أن تصبح “الأدبيات” الفرنسية هي المرجع الوحيد للجيل الحاضر من الجزائريين أنفسهم عن تاريخ ثورتهم.هذا من جهة، ومن جهة أخرى تصبح هي المرجع أيضا لغير الجزائريين الذين يرغبون في التعرف على مسيرة الثورة الجزائرية، وهكذا تصبح الكلمة الفرنسية هي الفصل في تاريخ الجزائر، ماضيه ومعاصره، تماما كما كانت كتابة “ڤزال” هي الفصل في التاريخ القديم، وكتابة “ڤوتيي” هي الفصل في التاريخ الإسلامي، وكتابة “ڤرامون” هي الفصل في العهد العثماني، وكتابة “جوليان” هي الفصل في التاريخ المعاصر.ألا ينذر ذلك بخطر كبير؟(الجزائر 23 يناير 1988) آهات مثقف عربيكان المؤرخ أبو القاسم سعد الله يعتبر نفسه مثقفا عربيا، فكان لذلك كثيرا ما يتحمل مسؤوليته بكل جرأة، من الأحداث والمحن التي تهز الوطني العربي هزا... ولم يكن يتردد في استعمال مبضع المؤرخ، لتشريح واقع عربي مريض، وصل حسب قوله “إلى آخر مراحل الدواء وهو الكي، بل البتر”...وقد تنبأ بنوع من الإنتفاضة على الذات في الوطن العربي منذ أواخر 1986، حين كتب يقول: “دخلنا عهد الثورة على النفس، وغسل خطايا الماضي والحاضر المترسبة في ذاتنا”..وهذه الثورة ستكون من جيل عربي، “يفتح عينيه على العهد الجديد لملوك الطوائف، والعهد الجديد من الحروب الصليبية، والعهد الجديد من الإستعمار - ومن ثمة لا يمكنه أن يقنع بالوعود المسكنة، أو ينخدع بالشعارات البراقة، أو يستسلم للجلادين الجدد، ولو كانوا من مواطنيه”..(*)وبموقف المثقف الثائر، يطلق الآهات والزفرات على حال وطنه الكبير، في العراق، القدس، ليبيا...فبعد نحو شهر من العدوان الدولي على العراق.. بمشاركة بعض الجيوش العربية - مطلع 1991، كتب في “رسالة إلى صديق “أمريكي” (1) يقول: “أن بلادك ياصديقي، تعتدي على جزء من وطننا يدعى العراق، أنها تجرب معه كل أسلحة الدمار التي تفتقت عنها عبقريتكم، تلك الأسلحة التي ابتدعتموها لتواجهوا بها القرن الواحد والعشرين..”ويفاخر صديقه بعراض الحضارة العريقة فيسائله: “أين واشنطن من بابل؟ وأين نويورك من بغداد؟ بل أين دستوركي من قانون حمورابي؟”ويضيف في نفسها السياق: “... كان على الأمريكيين أن يأتوا إلى العراق تلاميذ يقرأون ويتعلمون، أو سواحا يشاهدون ويعتبرون، أو علماء يحللون ويدرسون. ولا يأتون إلى العراق غزاة معتدين، أو صاعليك هولاكيين... مستهترين بكل إبداعات الإنسان الحضارية”..وكان متشائما من مؤتمر مدريد حول القضية الفلسطينية، لأنه يأتي بعد ضرب العراق وانهيار الصف العربي، واتجاه موازين القوى بناء على ذلك، نحو فريد من الإختلال لصالح الكيان الصهيوني، وقد عبر عن تشاؤمه في العديد من المقالات، نذكر منها مقالة “من غرناطة.. إلى القديس” (2) حيث كتب يقول على لسان عاصمة بني الأحمر: “هل فكرت مثلي أن ضياعنا كان دائما مرتبطا بسقوط بغداد؟.. تأكدي يا أختاه.. لو كانت صوارخ الحسين والعباس حاضرة اليوم في الساحة العربية.. لما زفوك إلى الموت، بهذه الطريقة المخزية، ولما جاؤوا بك إلى مدريد ليقرأوا على جثمانك الطاهر فاتحة الكتاب”.وفي ربيع 1992، أي بعد نحو سنة من العدوان على العراق، بدأت مؤشرات العدوان على ليبيا بتهمة “مساندة الإرهاب”.ويعبر بالمناسبة عن مشاعر الشعب الجزائري إزاء ليبيا الشقيقة فيقول: “أن ليبيا ليست منا مجرد قضية عادلة، أنها تاريخ مشترك ومصير مشترك أيضا، فما قد يصيبها، سيصيبنا أيضا من الصمم. ولها علينا حق التاريخ والأخوة والجوار.وسنكون ملعونين دنيا وآخرة، إذا لم نقف إلى جابنها بكل ما أوتينا من قوة”..ويعتقد “أن الدفاع عن ليبيا هو في نفس الوقت دفاع عن النفس، وهو دفاع مشروع، .. لأن الغرب ومن ورائه الصهيونية يريدون التحكم في ثروات ليبيا ونفطها، كما تحكموا في ثروات الخليج العربي، ونفطه، وسيسيل لعابهم غداة لثروات الجزائر ونفطها والتحكم في خيراتها..، وسيعود الإستعمار في أبشع أشكاله تحت مظلة النظام الدولي الجديد” (3)* يومية 15 نوفمبر 1986 ( مسار قلم)(1) صحيفة السلام، عدد 14 فبراير 1991(2) السلام، عدد 28 أكتوبر 1991


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)