الجزائر

محمد بوليفة: قصة أغنية



طلب مني الأستاذ والإعلامي، الصديق عبد العزيز بوباكير أن أكتب شيئا ما عن الموسيقار الراحل محمد بوليفة بمناسبة عيد ميلاده الرابع والستين (30 جانفي 1955 6 أكتوبر 2012)، والأستاذ بوباكير لا يردّ له طلب بالنظر إلى أنه صديق عزيز،وأحد رفاق الموسيقار في رحلتنا الطويلة في ربوع الوطن، وأحد الذين يمكن أن نعوّل عليهم ثقافيا وأدبيا وتاريخيا، ولأنه أيضا شخص غادر الحياة منذ عقود، رغم أنه ما زال يقتات قليلا جدا ويمشي في الأسواق متظاهرا بأنه على قيد الحياة، مثل شبح مهزوم بالوراثة. ثمّ إن محمد بوليفة لن تكفيه عشرات المقالات لإضاءة منجزه الراقي الذي ميز مرحلة من أهم مراحلنا الفنية والأدبية.سأجتهد إذن لتقديم هذا الاعتراف النسبي... وفي الحياة غصة: عيد ميلاد سعيد صديقنا محمد بوليفة، اليوم وغدا. لك كل الأعياد أيها المحلق هناك في جهة ما من جهات الربّ. سنحتفل دائما بقدومك إلى الوطن ذات شتاء لتؤثث بعض تجهمه بألحانك المهيبة التي صنعت بهجتناومجدنا القديم، كما فعل مارسيل خليفة والشيخ إمام وجيل جيلالة، وغيرهم من الفنانين الحقيقيين. لم نصدق إلى اليوم بأنك لست هنا في شوارع العاصمة الجزائرية وأزقتها، في الطابق الحادي عشر بالعناصر حيث امتزج اللحن بالشعر والمسرح والقصة والجدل والنكتة،وبالإنسان الكبير الذي كنّاه قبل المحنة، وقبل الوحل والمرارة، وقبل الطوفان الأعظم الذي سيفرط العقد.
وبعد: أستسمحك أن أقص على القارئ هذه الحكاية التي لا أحد يعرفها،ما عدا أنا لأني عشت تفاصيلها من البداية إلى النهاية، وسكتّ عقدين لأسباب كثيرة. لكني سأتخلى عن بعضها صونا للمضمرات التي لا تخدم الجانب الفني، وقد تسيء إلى الحكاية كمتخيل. المضمرات أفضل من بعض التجليات التي تلحق ضررابتعليقات القصة، سأفعل ما فعله المخرج الأمريكي ألفريد هتشكوك عندما كان يؤجل، وعندما كان يحذف الزوائد والسفاسف التي تغلق النص فيفقد انفتاحه على ممكنات القراءة والتأويل.
أتذكر جيدا، بلا سبب واضح لذلك، يوم ذهبنا في سيارتك البسيطة 205 الزرقاء (التي كنت تسميها مرجانة، نسبة إلى إحدى أغانيك التراثية) إلى ابن عكنون لغرض ما، أو من أجل اللاشيء مثلا، كما ألفنا ذلك خلال صداقتنا التي استغرقت أعواما طويلة، دون أن تشوبها شائبة. كانت الساعة تقارب السادسة مساء،وكانت السماء سخية والعاصمة كئيبة كشيء لا يشبه شيئا معينا. مطر. مطر. مطر غزير جدا، كما لو أنها لم تمطر من عام الفيل، ثم قررت أن تفرغ حملها دفعة واحدة على الشوارع الذاهبة إلى النوم قبل الوقت، كعادتها السيئة التي توارثتها من سنين الخوف التي أدخلت البلد في ظلام مبين أتى على الأخضر وحده، وأمّا اليابس فأصبح أخضر، يضحك ويرنّ.
لم تتوقع ما رأيته مصادفة في تلك اللحظة الخارجة من التقويم. كان المشهد مثيرا عندما مررنا بالحي الجامعي. انتظرت أن تشاهد كلّ ما يمكن تخيله، ما عدا تلك اللقطة الصادمة التي أربكتك طويلا، وساخت عيناك دفعة واحدة لأنهما لم تستوعبا الصورة المفاجئة التي كانت أكبر من تجربتك وقدراتك الحياتية. كنت حزينا جدا، كما لو أنك تذكرت أمرا ما، ما سمعته، أو ما قيل لك عن بعض الخلائق اللعينة التي تبدّل جلدها متى استطاعت إلى ذلك سبيلا. ما حصل قد حصل أمامك. لقد حدث أن رأيتك مرارا تعيش حالة شفق وفلق، كما يقول الأجداد، مضطربا كأكواخ الفقراء في القرى المنسية.
لكنّ ذلك اليوم كان فوق اللغة والعلامة، لم تكن اللحظة لحظتك، كانت لحظة الشيطان وأعوانه، وهكذا تقرر أن نمشي طويلا تحت المطر، بلا مظلة، وتسكعنا إلى أن غدونا ماء يسير تحت الماء النازل من فوق.وكنت تحدثني عن المشهد بخطاب متشظ. ومشينا كثيرا ونحن نتذكر، أو نحاول تجاوز الطبقات الحديثة للذاكرة. كان ذلك نوعا من التطهير الذي عرفته الآداب اليونانية، وتذكرت هيام الملك أوديب على وجهه، منبوذا في صحراء الوقت.كذلك كنّا في تلك الأمسية التي وجب إسقاطها من دفاتر الذاكرة.
في الثامنة ليلا، وبعد أن تبللنا عن آخرنا، كما يليق بنا، عدنا إلى البيت بعد جولة لا ذوق لها، أو جولة خاسرة سلفا،كما كثير من الجولات التي لا معنى لها، ما عدا اللقاءات التي كانت تجمعنا بأصدقاء ذلك الوقت البهي، ذلك الزمن الذي سلاما عليه يوم يبعث حيّا: الكتّاب والشعراء والنقاد والجامعيين الذين ظلوا جزء منك ومن أغانيك وترحالك المتواصل. كنت صامتا في ذلك المساء المظلم، ومتعبا كالبلد وناسه التعساء الذين قوضتهم الفتنة الوطنية فتاهوا. انزويت على الأريكة، قريبا من الدفوآلة العود وما تيسر من الكآبة، دخنت كثيرا، ثم بدأت تكتب قصيدة «عييت نقول لك لا لا» التي ستلحّنها في الليلة نفسها، دون تأخر. كان يجب أن تكتبها قبل أن يخفت الألم الجاحظ الذي تساقط رطبا جنيا، وأبدعت كندف الثلج البعيد:
«عييت نقول لك لا لا، عييت نقول لك ارجع، صديت عليّ واخذيت، حالك مني ومشيت، هاذي البداية يا قلبي، وانت اللي آخر من سمع. درت أمانك، في أوهامك، قلت أناي المستحيل، لقيت حبابك، سدوا بابك، ورماوك وحدك في ليل، تسمع غير الصمت ينادي، عللي رايح عللي غادي، على سبة يمكن تنفع. خليها تكبر لورود، ما نقطفهاش يمكن تعود، الدنيا الفرحانة وتوسع».
كنت تكتب قصائد بهية بالعامية الجزائرية المهذبة، القريبة جدا من الفصحى، تلك التي اشتقنا إليها بعد غزوة الأغنية الملوثة التي جعلت الورود تفكر جيدا قبل أن تتفتح بحياء خشية إملاق، وخوفا من سطوة الكلمات الفظة التي غدت دساتيرومرجعيات للجيل الجديد. ومن أغانيك العامية التي بقينا نرددها منتشين بمستواها الفني والموضوعاتي: لو كلّ الناس تحب، هيّا نتسامح، حتى شي ما فات، دالة بدالة، غريب لكن أتمنى، أنا جاي لآخر مرة، ليام واش قالت ليّا، إلخ.
عندما قرأت عليّ نصّ «عييت نقول لك لا لا» أعطيتك ملاحظات كالعادة. لم يحدث أن جاملتك. ثمّ اقترحت عليك استبدال بعض الكلمات التي بدت لي بديهية، وغير مؤثرة لأنها متواترة، وليست ذات قيمة من حيث الدلالة والطاقة التصويرية والمجازية. كنت أحدثك أحيانا بذائقتي، وبفهمي الأكاديمي للشعر كقوة تحويلية لها شخصيتها المميزة لها. وذلك ما كان، عوّضتها بألفاظ أخرى بعد نقاش من قطن الخليقة. كنت تثق في ذوقي وكتاباتي البوهيمية وإدماني على قراءة الشعر الفصيح والشعر الشعبي، وعلى التسكع في أرض الله، بلا اتجاه واضح.
أعجبني اللحن الذي أصبح جاهزا للأداء، وللتسجيل في الإذاعة والتلفزيون اللذين تعاملت معهما باحترام، ودون تنازلات تمس بفهمك للشعر والموسيقى. بدا لي اللحن مكتملا آنذاك، ورائعا جدا، كما لو أنه أوحيّ إليك جاهزا في ساعتين أو أقلّ. كان الأمر مدهشا حقا. أمّا أنا فأوعزت ذلك إلى ضغط المشهد وتأثيراته العميقة، في إحساسك باليتم والفقد، مع أنك لم تفقد سوى وهم صنعه منطق المرحلة. هكذا جاءت الأغنية بلحنها وكلماتها، وأعجبني العزف على آلة العود التي تواطأت مع الكلمات. لعلّ العود أدرك الأسرار كاملةفبكى سرا، مثلما بكيت في أعماقك في ذلك المساء الكئيب الذي أنتج هذه الأغنية من مشهد عابر، لكنه مؤثر بالنسبة إليك، وبالنسبة إليّ أيضا: الناس معادن، والمال هو الذي يخطط وينفذ، بعيدا جدا عن العقل المهزوم.
هل تسمعني جيدا؟ أنا أسمعك خمسة على خمسة، وأزيد. لا شغل لي سوى الاستماع للذين هربوا منّا مطمئنين هناك في فضاءات نائية. لأكمل الحكاية: في اليوم التالي ذهبنا صباحا إلى كلية الآداب بشارع ديدوش مراد حيث كنت أدرّس الآداب الأجنبية مع المترجم المكرس أبو العيد دودو، صاحب ترجمة الحمار الذهبي لأبوليوس. قلت لك حينها ونحن أمام بائع الزهور في زاوية شارعأرزقي حمامي (كابري سابقا): اسمع جيدا. أنتتقول في أغنيتك: «خليها تكبر الورود، ما نقطفهاش يمكن تعود، الدنيا الفرحانة وتوسع». الورود تذبل عندما تكبر يا محمد، تفقد قيمتها العظمى لأنها تشرف على الشيخوخة اللعينة، على أقسى مراحل اليأس، على الموت الذي ينتظر هذا وذاك. عليك أن تستبدل الفعل تكبر بالفعل تبتسم لأنه أقرب إلى المعنى الذي تبحث عنه، وذاك ما سيكون لاحقا. استبدلت هذا بذاك مقتنعا بالفكرة. لقد انتصرت عليك.
أذكر أنك ضحكت كثيرا واتهمت نفسك بكل التهم التي عهدناها، ثم قهقهت كعادتك عندما كنت تكتشف فجوة ما لم تنتبه إليها، شيئا غاب عن بالك، مع أنه قريب منك كمؤلف يعرف انتقاء الصور والمعجم بعناية فائقة، ويعرف كيف ينسج قصائد من بهاء الدنيا وفراشاتها. بالتاج ويحتاج، كما يقولون. كانت تلك قناعتك الكبرى التي دأبت على احترامها: مناقشة الكلمات والألحان والاستماع إلى مقترحات الأصدقاء، أو ما يشبه الشورى التي غدت قاعدة رمزية.
ثمّ: سافرت في خريف 2012 وبقينا وحدنا كيتامى القرن، وبقيت أغنية «عييت نقول لك لالا» تتردد على ألسنة محبيك الذين أسكنوك في صدورهم وأرواحهم، وظلوا يحتفلون بعيد ميلادك، كما لو أنك ما زلت تيمم شطر الجامعة، وشطر قلوب الأصدقاء الذين آمنوا بقيمتك الفنية كشاعر ومطرب وموسيقار، وكإنسان نادر. عيد ميلاد سعيد عندما يحلّ 30 جانفي، وكلّ عام وأنت في البال، كبيرا وشامخا. عندما يهاجر الكبار يأخذون معهم كثيرا من الضوء والبركات ويتركون في الدنيا فجوات لا أحد يرممها.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)