الجزائر

متى تنفض “النخب" المنتفعة انتهازيتها؟!


سواء اتفقنا أو اختلفنا في تسمية أو تعريف ما يحدث في العالم العربي، من أحداث سياسية (ثورية) عاصفة، فإن المؤكد أن هذا الحراك الشعبي الواسع الذي أسقط عدد من الأنظمة السياسية الفاسدة التي جثمت على صدور شعوبها أمداً من الوقت، قد أطاح في الوقت ذاته بعدد كبير ممن يسمون ب “النخب" السياسية والثقافية والأكاديمية، التي ظلت تمارس “المعارضة" الإفتراضية، المُخادعة والمفضوحة، و"تمثل" دورا معدا لها مسبقا من قبل الأنظمة الفاسدة، فميزة الأنظمة العربية عموما أنها تختار “معارضيها" الافتراضيين، تماما كما تختار مؤيديها، بذات الطريقة وذات الثمن، وكل من الطرفين -في الغالب- يؤدي دورا مرسوما له من الجهة ذاتها، وبذات الرداءة التي لا تخطئها العين الحصيفة.
لذلك ربما يسمي الزميل ابراهيم عيسى (رئيس تحرير الدستور المصرية سابقا) تلك القوى التي ظلت تؤدي دور “المعارضة"، في مسلسل النظام الحاكم، ب “المعارضة الرسمية" وهناك بالتأكيد، “نخب رسمية" و"صحفيون رسميون" الخ... وهو ذات ما ذهب إليه محمد حسنين هيكل عندما اعتبر أن أكثر ما نجحت فيه الأنظمة العربية خلال العقود الخمسة الماضية هو قدرتها على تطويع النخب، وذلك إما من خلال “شراء كلامها أو صمتها"!!
وقليل من أفلت من تلك المعادلة وانحاز لذاته ولقيمه ومكانته، وهذا الآخر يواجه حربا شرسة ومزدوجة من الأنظمة التي يعارضها من جهة، ومن “المعارضين المزيفين" أو “المؤيدين المعلنين" من الجهة الأخرى، ولأن كلا الطرفين الأخيرين (المعارض الافتراضي والمؤيد المعلن) لا يختلفان في أمر ذي أهمية، فإنهما يتهمان من ينحاز لقيمه الذاتية والإنسانية بكل ما علق بهما من حقائق دامغة، كأن يعتقدا أو يتهما خصومهم بالإرتشاء أو قبض ثمن مواقفه المعارضة للأنظمة، ففي الواقع أن البنية الذهنية لهؤلاء لا تسمح لرؤية الآخر بعيدا عن واقع تكوينهم الذاتي، فالعقل المرتشي لا يمكن أن يفكر في وجود عقل مبرأ من الرشوة، أو محررا من الارتهان لرغبة المال أو رهبة السلطة! وغالبا ما تكون المكونات الذاتية هي منطلق القياس والحكم على الآخر.
وفي واقع الأمر، أن أي ذهنية معارضة أو ثائرة هي في الأساس صوت رفض وتمرد على الوضع القائم، الذي يبدأ بالاستبداد ولا ينتهي في محطة رشوة النخب، وبالتالي لا يمكن تصور معارض حقيقي، للوضع القائم، يرتهن لذات محددات ما يعارضه من نماذج السلوك.
أعود لهذه العينات التي يطفح بها واقعنا المعيش، وأنا ألاحظ مدى انتشار اتهامات الارتشاء التي لا تنطلق إلا من أفواه من قبلوا أن يكونوا جزء من واقع الحال، فمرافعات هؤلاء المدافعين باستماتة عن الأنظمة الفاسدة والمفسدة، لا يمكن فهمها بعيدا عن محاولات الحفاظ عن منافعهم الذاتية، لأن بقاء الحال على ما هو عليه ليس سوى جزء من مسلسل حماية المكاسب المحققة للذات.
لذلك ليس غريبا أن نرى “المرتشون والمأجورون" هم أكثر صخبا في اتهام الآخرين، وهذا عائد للحالة النفسية المرتبكة التي يعيشونها بين تحقيق المنفعة الذاتية، وما يفترض أن يضطلعوا عليه من مهام ك“نخبة" قائدة للمجتمع في مناحٍ مختلفة من الحياة، ليس أقلها المنحى المعرفي والأكاديمي، الذي أضحى مجالا للارتزاق وتحقيق المنفعة الخاصة، بعيدا عن التفكير بجدية في كشف مواقع الخلل في النظام سعيا لإصلاحه من خلال الجهود المعرفية التي تفترض تفكيك وإعادة تركيب القيم المؤسسة للأنظمة السياسية والأنساق الثقافية والمجتمعية. وقد شهدنا هذه النماذج التي لم تتمكن من قراءة الواقع جيدا في دول الربيع العربي، ولم تقو على استشراف مستقبل تلك الأنظمة، فبدت في مؤخرة الركب تحاول القفز من المركب الآيل للغرق، في محاولة بائسة لتسويق نفسها في الوضع المستجد، وذلك من خلال الإدعاءات الوفيرة المتعلقة بإظهار معارضتها للأنظمة المطاح بها، معتقدة أن الشعوب العربية فاقدة للذاكرة وللوعي، بينما أبان الواقع أن النخب الانتهازية وحدها التي عمت عن رؤية الواقع بشيء من الوعي المفترض، وأن الشارع بدا أكثر وعيا وإدراكا من تلك الأسماء المكرسة بقوة الأمر الواقع.
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)