الجزائر

ليال بالمهجر



ليال بالمهجر
بقلم: بثينة محمود/ مصر
الحياة أقصر كثيراً مما نظن،،
بدت الإشكالية عظيمة عندما أردت مناقشتها معهم، لم تكن كذلك عندما كنت أحادث نفسي بها، كان الأمر في سهولة إشعال القدّاحة؛ أشعلتها بالفعل وأنا أحاول إقناعهم فسألني أحدهم إن كنت أدخن، مستنكراً، فلم أجب.
كنت أحمل أوراق هويتي وجواز السفر بإعزاز، وكنت أنتظر ترحيباً منهم للفكرة لكنهم بدوا لي غرباء لم يعرفوني يوماً، وبدا الأمر مثيراً للسخرية إن استمر الجدل؛ فالأوراق موسومة بتواريخ ميلادي الجديد لكنهم لم يفهموا، بعضهم أراد الإجهاض والآخر أراد الوأد.
أتذكر أنني دخنت أول سيجارة في ذلك الجمع ليس رغبة في ملأ الصدر بالدخان ولكن لأني لم أشأ استقبال زفيرهم في صدري!
على السادة الركاب،،
كنت أنا إحدى السادة الركاب، الراكبة التي لم تحمل تذكرة إياب في حافظتها الجلدية، تريثت قبل الخروج الأخير وألقيت نظرة ثم جمعتها بعيني مرة أخرى وأغلقت عليها جفوني؛ عاملت صالة المغادرة كأنها قاعة احتفال تضم عُرسي الذي وُعِدتُ به كثيراً ولم يتم أبداً، وأردت توثيق اللحظة. لاحظت كومة من الوسخ خبأها عامل في الركن القصيّ بالممر الذي أعبره، ربما لحين تناول فطوره، فنكأتها بمقدمة حذائي وبعثرتها؛ تحية أخيرة للوطن.
كنت بغاية العجلة ولم ألتفت لكوني بلا مودعين.
أنت أول شرقية سمراء أراها خضراء العينين !
كان الوسخ الذي نكأته أخضر في مُجمله يحمل بثناياه وريقات أشجار اصطناعية، وكان حذائي زيتوني اللون، يخبرني “آل" أنني حتماً كنت هنا قبلاً؛ فبرغم استثنائية ملامحي فهو يقسم كل صباح أنه واعدني قبلاً. في الليل كنت أعتز بالوحدة وأضم إليها صدري ولا أشعر بصقيع تخبر عنه وكالات الأرصاد كل ليلة، كنت دافئة كثمرة بطاطا مشويّة. وفي النهار كنت أعمل كآتان.
لم أحبُكَ يوماً ولم تر منّي غير ألم متقلّص،،
بريدك ممتليء لهذا لا يكف عن إعادة تلك الرسالة التي أرسلتها آلاف المرات! بريدك ممتليء. ولا يريد أن يستقبل كلمة تقطع الخيط الواهي، بريدك يؤدبني كما ظللت تفعل هناك، بجوار كومة الوسخ الكُبرى. وأنت لا تتوقف عن الإرسال كأن بريدك يحمل مثلي تذكرة باتجاه واحد، سلْ بريدك! سيخبرك، لقد ذهبت، ذهبت. ولكنك لا تريد لي غير أن أعود، واعداً إياي بالدفء، وحفل عُرس!
لا أصدق أنك يمكنك قضاء العطلة وحيدة، تمرحين،،
أفعل! أنا أمرح وحدي وأثق بأني رفيقة طيبة لنفسي في تلك العطلة الطويلة، يرسلون لي من الطرف الآخر للعالم صورة جامعة لهم على الهاتف بينما يطفئون الشموع بعيد ميلاد أحدهم، وترى عينيّ كومة خضراء بجوار المنضدة، ألمح في ركن الصورة وجه أعرفه لكني لا أذكر الإسم! بدأت في نسيانهم، وسيرحل النسيان إلى الطرف الآخر من الصورة وهنا أكون قد نسيتهم جميعاً. وستنطفيء الشموع بالذاكرة، بل ستنطفيء الذاكرة! كنت أمرح وحدي، باكية أمام فيلم عظيم، في قاعة سينما خاوية، حينما تذكرت أنني لم أصنع لي هنا أية ذكريات بعد!
الحياة أقصر كثيراً مما نظن،،
قلت للرفاق ونحن نتناول مشروباً بعد العمل، أن الخطوط المتوازية لا يجب أن تكون كذلك ويجب أن تتقاطع لتصنع نوعاً من الشِبَاكْ! فمطّوا شفاههم جميعاً، أخبرتهم عن الزحام الذي نهرب منه للوحدة والصخب الذي يجعلنا نمضي الحياة بصمت، الحق أننا يجب أن نخلط الأشياء ببعض، لننجو، فقرروا أنني كبيرة الساحرات وأن الإجتماع قارب على الإنتهاء، سخروا مني كثيراً فبادلتهم النكات، لكنهم بدوا لي -أيضاً- غرباء لم يعرفوني يوماً، لم أشأ أن أفسد لحظة بدأت فيها أصل لشيء من الذكريات المصنوعة حديثاً! وعدت أؤكد لنفسي أنني على حق، حتى لو لم أحسن التعبير، أو لم يفهموا.
تذكرة الذهاب،،
اليوم صحوت على صوت مختلف، هناك ثلوج تحيط بالبناية، والجيران قرروا قضاء الوقت في نزحها مجتمعين، أشرت للجميع بعلامة نصر قديمة من خلف الزجاج مصحوبة بابتسامة زاعقة فخُيّل إلي أني سمعت اعتراضاتهم المكتومة لعدم مشاركتي، شربت كوباً من الحليب، وأنا استمع لحالة الجو بانتباه، فقد صار يؤذيني الصقيع ويفتّت عظامي، عندما عدت إلى النافذة، رأيت كومة وسخ خضراء في بداية الممر!


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)