الجزائر

في الحضارة



في الحضارة
مالك بن نبيقبل 46 سنة تقدم الأستاذ مالك بن نبي تحت هذا العنوان بالمداخلة الافتتاحية لأول ملتقى دولي للتعرف على الفكر الإسلامي بالجزائر الذي بادر -رحمه الله- إلى إقامته وتبنت الدولة إقامته سنوياً، كان ذلك أيام 5 ديسمبر 1968 إلى الفاتح من جانفي 1969 بثانوية عمارة رشيد بالعاصمة، وكان من أهم ما جاء فيها:بسم الله الرحمن الرحيمضيوفنا الكرام، إخواني الأفاضل، أبنائي الأعزاء،يسعدني وفي ذات الوقت يهوّلني أن أرى نفسي مقحماً في واجب أراه مقدساً وصعباً في آن: أن أتقدم بالكلمة الأولى في هذا الملتقى، فهذا شيء يشرفني طبعاً، لكنه يشعرني بشيء من الهول في الوقت نفسه، إنّي أدرك أنّ أوقاتكم ثمينة، كما أدرك أنّ لقاءكم هو الآخر ثمين وفلتةٌ. ربما هو فلتة من فلتات الصدف المواتية التي نرجو من الله عز وجل أن تتكرر وتصبح فلتات سعيدة في تاريخنا وفي حياة شبابنا المثقف.... إذا أردنا أن لا نغش أنفسنا، توجب علينا أن نصارحها بالحقائق اللازمة مهما كانت مُرّة ولا نموّهها، فنسمي الأشياء بأسمائها. فلا يجب أن نفجع أو أن نخجل من هذه الكلمات وما تحمله من حقائق موضوعية إذا ما نحن عقدنا العزم على مجابهة الوضع. فأوّل خطوة في الحل هي تفهّم الوضع والإقرار به كما هو.تصوّروا طبيباً يخفي على مريض يعوده حقيقة مرضه، ويجعله يعتقد بأنّ حالته الصحية حسنةٌ وأنّ المرض بسيط ! إنّ هذا الطبيب يغش نفسه ويغش المريض؛ وإذا ما اعتقد بالأخص المريض في كلام الطبيب وردّده، فإنه يغشّ نفسه ويفتح عندئذ طريقاً للقبر !كل همّي هو أنّي أتكلم بصراحة ولا أحاول تمويه الحقائق.كيف تُعرف الحالة المرضية؟ أو ما هي المقاييس الدّالة على المرض؟إنّ الحالة المرضية تُعرف بالنظر إلى الحالة العادية، أي انطلاقاً من معايير معلومة؛ كالنبضات، التنفس، ...، مثلاً. فمقياس الطبيب لا يكمن في المرض في حد ذاته، وإنما في الحالة الصحية الطبيعية.والمرض لا يصيب الأشخاص فقط، بل يصيب المجتمعات أيضاً. فيوجد هناك حالة مرضية على مستوى المجتمعات هي ما نتفق على تسميته ب "لاحضارة".كل ضروب النشاط، في أي وطن، توجّه نحو تحقيق هدف حضاري، ويجب أن يكون هدفنا نحن أيضا حضارياً، ليس كرغبة منا في التحضّر، لا؛ فإن لم يكن هدفنا ضرورياً فلا لزوم له.فالقضية ليست تعلّقاً برونق كلمة حضارة، ولا هي أيضاً خضوعاً وإجلالاً لمفهوم يسمى حضارة، إنما هي ضرورة وجودية كالماء: إما أن نرتشف منه أو أن نموت عطشاً!.. فلم يعد هناك وقت للعبث.. المسألة في حالة كحالتنا ليست مسألة شعريّة، .. قد نستعمل نفس الكلمات الجاري استعمالها، لأنه ليس بالإمكان خلق كلمات جديدة في كل مرة... ما أعنيه أنا بلفظة حضارة، ليس ما يعنيه الشاعر أو المؤرخ.. وعين الصواب هو هذا الذي أريده أنا، سواء أكان في مستوى المفهوم الذي في العقول أم لا... القضية مرتبطة بالحضارة بالمعنى الذي أعرّفها به أنا، وليس بالمعنى الذي يعرفها به فلان أو فلان،.. إنّ الوقائع لا تلغي بفضل الألفاظ التي نختارها، فلكلّ مصطلحاته... فالذي يهمّنا ليس المصطلحات وإنما الواقع الاجتماعي الذي تعكسه هذه المصطلحات..لنبدأ بالسؤال المطلوب توضيحه: ما هي الحضارة؟بالإمكان أن يعطي كل واحد منكم تعريفاً للحضارة. أما تعريفي أنا لها فهو: «الحضارة هي مجموعة الشروط المادية والمعنوية التي تتيح لمجتمع ما أن يكفل جميع الضمانات الاجتماعية لكل فرد يعيش فيه».. وتحقيق تلك الضمانات مرهون بوجود شيئين مهمّين: إرادة عمل (حضارة)، وإمكان عمل... لنتوقف هنا ونتسائل: لماذا مستوانا اليوم، نحن كشعوب مسلمة - سواء كنا نعيش في السعودية، في القاهرة أو في غيرهما - هو دون عتبة النمو؟الإجابة هي أن مجتمعنا يعوزه الشرطان الأساسيان لتأدية دوره المنوط به في عضده لأفراده. تعوزه الإرادة التي هي جوهر قيام الحضارة، أمّا القدرة أو الإمكان، فإنه يأتي كنتيجة لهذه الإرادة القوّية، ولا يمكنه بأية حال من الأحوال أن يتقدمها... المجتمع المسلم لم يتمكن من تحقيق هذه الإرادة وهذه القدرة اللتان تلزمان المجموع بالنسبة للفرد في الوقت الذي تلزمان فيه الفرد بالنسبة للمجموع. وهذا نظرا بالضبط لغياب الرابط الإيديولوجي المناسب، المؤسس على هذين الجانبين من الحقيقة التي أشار إليها السيد وزير الأوقاف.كلّ حقيقة، لاسيما الحقيقة الدينية، سواء تعلّق الأمر بالحقيقة اليهودية، المسيحية أو الإسلامية، تنطوي على جانبين؛ الصحة والصلاحية (الصدق والفعالية).فإذا كانت صحة حقيقتنا الإسلامية متعالية عن كل إهانات الزمن، فإنّ فعاليتها ليست كذلك، لأنّ كلّ ما يتّصل بالأرض يصير حقيقة تاريخية ترتبط بمشاكل الأرض، من سكنات اجتماعية وما إلى ذلك.إنّ الحقيقة الفعّالة تخضع لقوانين التراجع والارتقاء، بينما الحقيقة الصحيحة أو الصادقة فهي إمّا صحيحة أو غير صحيحة.إنّي مثلكم، اعتقد بأنّ الحقيقة الإسلامية حقيقة محصّنة، غير قابلة للطعن لا من جهة المنطق، ولا من جهة العلم الأكثر دقة. غير أنّني في الوقت الراهن، أكون مضطراً إلى الإقرار بأنّ الشعوب الإسلامية لا تعرف كيف تجعل من هذه الحقيقة الصادقة أداة عمل وخلاص، أداة تجعلهم في مستوى الحضارة وفي مستوى البلدان التي تضمن لكل فرد من مواطنيها كرامة الحياة من خلال الحرص على توفير كافة الحظوظ لنموّه.




سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)