الجزائر

في البحث عن مصر!



في البحث عن مصر!
كل الزرع ينبتُ في مصر. تضجُّ البلاد بعبق لا تجده في حكاية بلدان أخرى. في مصر فقط تقوم الجمهورية ولا يُعدم الملك ولا تُشتم الملَكية. في مصر ترانيم واعدة لنغم أصيل يصدحُ فيه اليسار كما اليمين، الباشوات كما ”الغلابة”، العسكر كما اللاعسكر. في مصر وحدها يسقطُ ”الإخوان” من دون أن يغيبوا، وترتفع أناشيدُ العهد الجديد بإيقاعات لا تشي بنهاية التاريخ.يبحثُ العرب عن مصرهم. منهم من يريدُها نداً للفرس المطلّين بوقاحة على شؤون المنطقة. ومنهم من يعشقُها نموذجاً لمنظومات حكم وعيش دون ”إخوان” ودون إسلام سياسي. ومنهم من يستدرجُها رافداً لأنظمة استبداد ودم تعاديها ”الجهادية”. ومنهم من يشتهيها قوةَ فعل وانتشار تستدعي مآثر إبراهيم باشا. ومنهم من يحلمُ بها مارداً يخرج من قمقم فيحقق للعباد أمانيهم الثلاث، ولكل عبدٍ أمانيه.في مصر ينبتُ زرعٌ كثير. من المصريين من يرى في العهد الراهن نعمةً لا يجوز بها إلا الحمد، ذلك أن لطاعة الوليّ حكمة اجتهد لها علماء الفقه. ومن المصريين من يجد في ما بعد ”الإخوان” نوراً أطل بعد ليل كالح، سيّان بعده هوية الحاكم. ومن المصريين من يستمر في الجدل الذي أطاح بمبارك وحزبه وبمرسي وجماعته، ذلك أن ”الثورة مستمرة” في الطريق نحو مصر حديثة عادلة تسودها الحريات ويسوسها القانون.يبحثُ العرب عن مصرهم. قليلاً ما يزورون شوارعها ويدخلون بيوتها، لكن كثيراً ما يشاهدون إعلامها ويُنصتون إلى منابرها. من يكتفي بمتابعة الإعلام المرئي قد يستنتجُ أن في مصر إلياذة واحدةً، وأن الأبواق تكررُ بملل خطاباً بليداً. لكن من يتغلب على سهوه ويمخرُ العباب بصبر، سيكتشفُ أن النقاش شرسٌ عميق جريء طموح قد لا يقدّس سلطةً وقد لا يجثو لسلطان. جادل المصريون في ”القناة” الجديدة تشكيكاً وبحثاً وانتقاداً. هي ”ترعة” على ما تفتقت عبقرية الخصوم، وهي إنجاز مصريّ أصيل على ما رأى أقرباء القصر. وأياً كانت مسالك الآراء ووجهاتها، فَرِحَ المصريون بولعٍ بمياه جديدة تخترق رمالهم، وأضحى الإنجاز هرماً آخر يضاف إلى حواتيتهم. يبقى أن مفهوم الترعة سيبقى خطاب ”الإخوان” في كل صولة وجولة تُسجّل للحكم الجديد، فيتواكب كل فعل مع ”ترعته”. وللخصومة ديناميتها في إنتاج العدم والكفر بأي حياة.لم يفهم العرب مصر وما ترومه منهم. قيل إن مصر منشغلة بمِصرها ولا تملكُ الالتفات لحالهم. هكذا أيضاً قيل حين خرجت مصر من الفعل العربي، فكان أن أصبحت مصر ”مصر أولاً”، وما زالت كذلك. في القاهرة من أخرج من الدفاتر العتيقة مؤخراً نظريات بالية عن ”الأمن القومي” المصري. صدّق العرب أن مصر صارت تنظرُ بعين كبرى، ولم يلحظوا بعد ماذا ترى هذه العين. يراقبُ العرب اشتهاء مصر لوصلٍ مع طهران لا يؤجّله إلا حرج من الرياض. يتابعون احتراف الخصومة مع أنقرة وفي ذلك لبسٌ تؤججه أيضاً أجندات أنقرة. ويستنتجون بحيرة غياب ملامح واضحة حازمة تقصّ عليهم حكايات مصر اليوم. تتجادلُ مصر حول موقع التيار الديني داخل مشهدها السياسي المتوخى. تخاصمُ ”الإخوان” لكنها تتحرى مكاناً أصيلاً للتيار الإسلامي في السياسة ومؤسساتها. الدينُ مصدر للتشريع في الدستور، بما يكفل للإسلاميين موقعاً للفعل في المؤسسات. هي مغامرة في اجتياز حقول ألغام لا تجيدها إلا صلوات المصريين وتراكم تجاربهم. تناقشُ مصر كل يوم خارطة ل ”التطبيع” يوماً مع ”الإخوان” (على نحو تمقته ”السلطات”). في المقابل يغيب أي نقاش داخل صفوف ”الإخوان” أنفسهم يعيدُ الجماعة يوماً إلى مصر. في ذلك أن الصدام طويل الأمد لا أفق منظوراً لنهاياته.تنظرُ مصر إلى براكين الجوار بصفتها قدراً مصريا خالصاً. لمصر ما تقوله في اليمن وليبيا ولها ما تهمسُ به في سورية. يهابُ العرب المزاج المصري ويدارونه، ليس بسبب ما تفعله مصر، بل بسبب ما يعتقدون، ربما مبالغة، أن مصر يمكن أن تفعله. بعضهم يرى في ذلك الغياب المستمر سبباً لرواج المآسي، ذلك أن لا كبير في المنطقة منذ أن سحبت القاهرة مصر من وظيفة الكبار.لن يمر قانون الإرهاب كما قدّمته الحكومة للرئاسة، وعملياً، للرأي العام، كما لم تمر النسخات الأولى لقانون الانتخابات قبل ذلك. انتهى عصر المراسيم وللجدل مكان واسع لا يضعفه غياب البرلمان. يبحثُ المصريون عن مصرهم مطلقين العنان لورشة إنتاج رأي دون جزع من حاكم. تعلّم المصريون بحنكة أن يراقصوا سلطانهم، وللسلطان حكمة في الاستسلام للجدل دون التسليم به.يبحث المصريون عن مصرهم، وقد ينتظر العرب كثيراً قبل أن تطلَّ عليهم مصرهم. وقد يستحسن المصريون أن تبقى ”مصر أولاً” فيستمرُ العرب بانتظارها أبداً!




سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)