الجزائر

فقدت روح الحزن والبساطة جنائز اليوم.. تباهي في المأكولات و”عرضة” لليوم الثالث



  طالما كانت البساطة في الجنائز رمزا من رموز الحزن والحسرة، غير أن الواقع المعاش مؤخرا يوحي بعكس ذلك.. أطباق تقليدية عهدناها في الأعراس والولائم، قضايا ومواضيع تناقش عن الحياة اليومية، ظهور المعزين في كامل زينتهم وتجاهلهم آداب التعزية، وزغاريد عند إخراج الميت من بيته..!  المار بأحد البيوت التي ابتليت بفقدان أحد أفرادها قد لا يستطيع الجزم أنه أمام جنازة، لأن منظر الرجال الواقفين بكثرة أمام الباب وحده لا يكفي لقول ذلك، فالمشهد الجنائزي الذي اعتدنا عليه سابقا لم يعد له أثر، وهو رأي العديد ممن حدثناهم في الموضوع، والذين أجمعوا أن المباهاة والإسراف اجتاحت حياتنا الاجتماعية إلى حد اختزال الفوارق بين طقوس الأفراح والأحزان.  لم تجد “الفجر” مكانا أفضل من المقابر لرصد آراء الناس حول هذا الموضوع، فكانت وجهتنا مقبرة ڤاريدي بالعاصمة، أين لمسنا تأسف أغلب المواطنين من الحالة التي آلت إليها الجنائز في مجتمعنا. وأكثر ما أثار استياءهم ما أسموه “موضة الجنائز” هي تلك الأطباق مختلفة المقدمة عند التعزية، والتي توحي أن أهل هذا البيت يشدون انتباه ضيوفهم لقدراتهم المادية، إضافة إلى حرص الضيوف على الظهور بأبهى حلة، غير آبهين بالحالة النفسية لأهل الميت، المواضيع المناقشة التي تعنى بأمور الدنيا ومشاغلها وغياب روح الحزن التي تحل محلها الفكاهة والتسلية. أما عن عادة الزغاريد التي ترافق خروج الميت من بيته، فهذا الأمر الذي لم نعهده في السابق.  مأكولات عهدناها في الأفراح البوراك، المثوم باللوز واللحم الحلو، مأكولات تقليدية طالما زينت موائد الأفراح الجزائرية، لكن أن تقدم هذه الأطباق في الجنائز بدلا من الكسكسي الذي عرف كطبق رسمي لهذه المناسبة، فهو أمر مستحدث لاقى رفض العديد ممن اعتبر الأمر مبتذلا. السيدة غنية، التي حضرت جنازة أب صديقتها، تفاجأت من المبالغة في إبراز مظاهر “الكرم” في استقبال المعزين، مضيفة أنها بقيت مستغربة من إقامة العائلات شبه احتفال من فرط الاهتمام بالأكل وإعداده والحرص على تحضير مختلف الأنواع والأصناف. أما سعاد، التي استقبلت في بيتها المعزين في جنازة جارها، فقد استاءت من التبذير والبدع التي شاهدتها قائلة: “منذ متى قدمت الحلويات باللوز في جنائزنا؟!، ومن قال إن التصدق على روح الميت يتطلب ذبح الخرفان وتقديم الفواكه الغالية للمعزين”. أما عن دعوة الناس لليوم الثالث، ولذكرى الأربعين للغذاء أوالعشاء من طرف أهل الميت، فقد تنكر له العديد ممن قابلناهم، وكانت الجملة التي رددها أغلبهم عن هذه الظاهرة: “كيف لعائلة مفجوعة من فقدان أحد أفرادها أن تقيم الولائم وتنشغل بإكرام المدعوين، حتى لا يشعر الحاضر سوى بذلك الاستعراض لمظاهر الثراء من طرف أهل الميت، والإدعاء بحرصهم على إكرام الميت..”. .. ومعزّون يتجاهلون آداب التعزية أجمع العديد من المواطنين الذين سألناهم عن مظاهر الجنائز في بلادنا، أن المعزين فقدوا مظاهر روحانيات الجنازة، جاعلين منها مناسبة للتحدث في مواضيع دنيوية تطغى عليها الماديات وأمور لا تناسب المكان ولا الوقت، خاصة من طرف النساء. وفي ذات السياق تقول هاجر، التي فقدت والدها مؤخرا، أن” أكثر ما أثار انزعاجها خلال تلقيهم العزاء هو حضور بعض النساء مرتديات ثياب لا تليق بالمناسبة، إضافة إلى علو أصواتهن بمناقشة أسعار بعض المواد الغذائية”. أما إسماعيل، الذي استقبل المعزين إثر وفاة جده، فقد استاء من الضحكات العالية والأحاديث الجانبية، وكذا رنات الهواتف التي لم يكلف الحاضرون أنفسهم عناء وضعها على الصامت”، في حين أن جدته الحاجة العطرة، فقد تحسرت على آداب الجزائريين فيما مضى، قائلة إن المعزين كانوا يحرصون على الظهور بثياب محترمة تعبر عن مشاركتهم لأحزان أهل الميت، كما يقومون بمواساة العائلة والتخفيف من أحزانها دون ابتذال، بعيدين عما يحدث اليوم من أحاديث و ضحك..  من جهته، اعتبر الدكتور يوسف تمار، أستاذ وباحث في علوم الإعلام  والاتصال، أن قلة المرافق والفضاءات التي يناقش فيها الجزائريون أمورهم  والمواضيع التي تمس حياتهم اليومية جعلت من الجنائز، وغيرها من المناسبات، مكانا لتبادل الخبرات في مختلف مجالات الحياة، وكذا طرح الهموم و الانشغالات لمحاولة إيجاد الحلول الجماعية، مشيرا إلى أنه من خلال ملاحظاته العلمية يستطيع التأكيد أن الجنائز، على غرار باقي الأماكن الأخرى كالمقاهي والأعراس  والمساجد، مكان يصنع فيه المواطن قراراته المختلفة وحتى السياسية منها. “الإسلام نهى عن بدع جاهلية فعوضناها ببدع جديدة..” تقول أستاذة العلوم الشرعية، حسيبة مقدم، إنه لا يختلف اثنان أن للجنائز في الإسلام آداب يجب الالتزام بها حتى لا نقع في خانة البدع والمكروه، ومن هذه الآداب التي حثنا عليها ديننا الحنيف أن نبتعد عن الطقوس الجاهلية في الجنازة، غير أن الطقوس التي جدّت على هذه المناسبة المؤلمة في بلادنا تعود بنا للوقوف على ما هو جائز وما هو منهي عنه في مثل هذه الظروف. وأردفت قائلة:”جدّت الكثير من الطقوس الغريبة على مجتمعنا في الجنائز، ولعل أبرزها دعوة الناس للثالث وللأربعين بدعوى التصدق على الميت، كما أن الفكاهة واللغو بهدف التخفيف عن أهل الميت،  والزغاريد عند إخراجه.. كلها بدع لا تمت للإسلام بصلة، لأن ديننا نهى عن إشعال النار في مواقد أهل الميت لمدة ثلاثة أيام، حسبما جاء في الأثر. كما اعتبرت الأستاذة حسيبة، مصيبة الموت مناسبة لتذكر هادم اللذات ولمحاسبة النفس بتنبيهها أن حياتنا مآلها للفناء.   إيمان مقدم  


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)