الجزائر

عندما يصحو الطفل ويسأل عن رسومه المتحركة المفضلة.. حكايات "سنديبال"،"ريمي" و"صاحب الظل الطويل" في عيون مبدعينا



عندما يصحو الطفل ويسأل عن رسومه المتحركة المفضلة..              حكايات
الوقت شبيه بالصداع والتلفزيونات مكتظة بحكايات الثوار.. التي بدأت ياسمينا ثم تغلغلت تحريراً والآن صارت وجعا ودماء تتحرك من زنڤا إلى زنڤا.. ماذا يمكن أن نفعل غير أن نطفىء هذا التلفزيون الذي يأتيك بالأخبار مما لم تزود "الفجر الثقافي" لهذا الأسبوع تحاول بالفعل إطفاء التلفزيون والسكوت عن أصوات الحروب والثوار، "الفجر الثقافي" ستغير القناة وتغير الزمن أيضا.الطرح بسيط جدا هذه المرة.. وهو العودة بالذاكرة إلى حدود الحلم الأول.. إلى مشاكسات هايدي وسالي وسازوكي.. إلى حكايات سندبال.. وحتى رقصات ميكي ماوس.. أهلا بكم إلى استضافة الذاكرة البريئة.. لقد قمت بطرح سؤال الطفولة لعدد من المبدعين الشباب.. كي نوقظ الحب والفرح والألم في وقت الزلازل أيضا.. خالد بن صالحالطفلُ بداخلي ممسكاً بيدِ الشاعرلا يحتاجُ السَّفر إلى عوالم الطفولة إلى كبسولة زمن أو مركبةٍ فضائية تعودُ بنا إلى تلكَ الدَّهشة الملوَّنة أمام شاشةٍ أحادية الأبعاد والاحتمالات. دون "ريموت كُنترول" تشتِّت العيون أو تمنح تلك الأصابع الطرية فرصةً لممارسة سلطة التحكم عن بعد بما نرغب أو لا نرغب في مشاهدته.وإذا كانت شارات أغاني المسلسلات الكرتونية أو الرسوم المتحركة كمصطلحٍ متداول في الحياة اليومية، اتخذت لها مكاناً قصيا في ذاكرتنا البعيدة.. فإنَّ أبطالها خفيفو الوزن. سريعو الحركة. عميقو المشاعر، لازالوا أصدقاء طفولةٍ لا تنتهي. يرافقوننا كظلالٍ تتراءى بين لحظتين: الآن المثقلة برُكام العالم وبقاياه، وما كان من دقائق معدوداتٍ كأنَّ الواحدة منها عمرٌ بأكملِه لسحرِ الحكاية ولذَّة تفاصيلها. هكذا تقاسَمنا معهم الفرح الصغير، والأحزان الكبيرة. المغامرات والحماقات الإنسانية بكلِّ براءتها ونقائها.. شخصياً أذْكُر جيداً لحظات الانتظار قبل أن يطلَّ النسر الذهبي فارداً أجنحته فوق جبال الكولورادو.. مشرعاً نوافذَ الترقب واللَّحاق بتلك التفاصيل التي تصاحب البطل "بِبيرُّو" وأصدقائه في رحلةِ البحث عن أبيه. حصانُه الأبيض جعلَ خيالي يحلِّق دون أجنحة ولم أخجل من بنطلوني المرقع عند الركبتين لأنَّ بِبيرُّو الصادق الأمين الذي يريدُ خيرَ الناس أجمعين يرتدي بنطلوناً مرقعا لم يغيرهُ على مدار حلقاتِ مشواره الطويل..وتعودُ صوتَ محبةٍ يُنادي: ساندي بَل أنا اسمي ساندي بَل، أسافر في كلِّ الأزمان.. أعيشُ في كلِّ مكان.. ولم أستطع امتلاك قلب مثل قلبها المليء بالإيمان وأشكو ولا أعمل ولا أحب كلَّ الناس، كم تجعلنا تلكَ المرايا نتحسَّسُ ملامحنا التي ضاعت في زحمة الانكسارات. ولعلني تمنيت دائما أن أكون صاحب الظل الطويل.. ليبتسم الحظ على يدي للفتاة جودي.. انطلق يا بطل للنصر الأكيد..هكذا يعود "تاكايا تودوروكي" شاقاً طريقه بسيارته السَّريعة وإرادته القوية لنيل الجائزة الكبرى.. سباقات كثيرة وخيبة أمل وحيلٌ يتغلب في نهايتها الخيرُ دائماً على الشر.. وليتَ الدنيا رسومٌ متحركة، على غرار جنغر وغراندايزر وسانشيرو البطل المغوار.. وما أحلى أن نكون في بيتٍ واحد مع سِنان ورفاقه بنان ولالا، وحتى بصحبة شرشور وفرفور رغم كلِّ المكائد الجميلة في غابةٍ تشبه روضةً للأطفال، ولا تعبِّر أبداً عن مفهوم الغابة وقانونها الوحشي بين البشر.. حتَّى في مفهوم القوةِ نبلٌ نتعلَّم مبادئه مع النَّمر المقنع، هذا الوسيم الذي جعلَ للصداقةِ في حياتي بعداً آخر أعمق وأجمل. لعلَّني في مراسلاتي مع ابن عمتي المغترب بفرنسا ظللتُ لسنوات أحمل لقب النمر المقنع.. بعيداً عن هذه الأقنعة التي تلبسنا رُغماً عنَّا ونداريِ بها ضعفنا وحقدنا وسذاجتنا في محبةِ العالم، ليبقى اسما شجاع وسُكَّر في مكان آخر أكثر حميمية بقلبي.كلُّ حلاوة الدنيا ومرارتها في ملامسةِ تلك الأحاسيس العميقة بدموعٍ جعلتنا نحزن لحزن بشَّار، زينة ونحُّول، سالي، بوليانا، وريمي.. نفرح لفرحهم وننسى ساندويتش المساء وما علينا من واجبات مدرسية حتى تنتهي تفاصيل هذا السحر، هذه العوالم الأقرب إلينا من واقعٍ لا نملكُ له وصفاً أو منه نحن الأطفال غير البلاهة أمامَ ما يهجُم علينا من دروسٍ في الحياة تقينا شرورَ اللامُبالاة والطمأنينة الغبية، في ما يسمى بالعائلة الكبيرة.  أكيد أن مساحة ارتكاب الحماقات الجميلة لا تتوقَّف مع طم طم وبسيط.. والقائمة تطولُ إلى أن تحملني على جناحِ إوزة وأتمثَّلُ الطفلَ نيلز الذي أحببتُ مغامراته كثيراً، وحلمتُ دائما أن أحظى بعقابٍ مثله يجعلني أصغُرُ بحجمي، أكبُر بأشياءٍ كثيرة بداخلي كالإحساس بالآخرين، وبما نرتكبه من أخطاء في حقهم ويحملنا على الاعتذار.في الأخير كان المثل الصيني حاضراً بقوة وكنتُ أقول لرامي الصياد الصغير لا تعطني سمكة بل علمني الصيد.. وتلكَ حكاياتٌ تروى في كلِّ زمان ومكان.. لم أفهم جيداً هذا الحنين المفاجئ الذي هجمَ عليَّ دفعةً واحدة وبداخلي رغبة قوية لسردِ الكثير من القصص والعناوين والأسماء.. التي منحت لطفولتنا البائسة شيئاً من المعنى. وبحكم دراستي لعلم الاجتماع كانَ لا بد لهذا المقامِ أن يكون على شاكلة: كيف أثرت الرسوم المتحركة في شخصية الطفل وعلاقته بواقعه وأهله ورفاقه؟ ما مدى تأثير هذا العالم الكرتوني في حياته الداخلية ومفاهيمه تجاه نفسه وغيره؟.. أسئلة كثيرة لا أطرحها على نفسي بقدر ما يجب طرحها لمعرفة أعمق بأطفال اليوم. هذا الجيل الذي مزَّقوا أحشاءه بمشاهد العنف والحركة المبالغ فيها والحكايات الغبية والتأثيرات البصرية.. والغباء المعلَّب في قنواتٍ متخصصة ميزتها الوحيدة تصدير الروتين والبلادة بدون انقطاع وعلى مدار ساعات اليوم كاملة.. ليسَ أنا من كتبَ هذه النوستالجيا على عجلٍ. كان الطفلُ بداخلي ممسكاً بيدِ الشاعر المأمورة، وتلكَ بعضُ ملامح ما صرتُ عليه في الكتابة والحياة.. وأثرُه كالنقش في الحجر باقٍ لا يزول.علاوة حاجيالرسوم المتحرّكة.. هذه الكائنات المحرّكة للخيال والوجدانأعترف - وأنا بكامل قوايَ العقليّةِ - أنّني أتابعُ، حاليًّا، ثلاثة مسلسلاتٍ كرتونيّة!لعلَّ الأمر غريبٌ، وربّما كان الرقمُ ضخما بالنظر إلى أن الحدث الذي يطغى على شاشاتنا هذه الأيّام هو الاحتجاجات الشعبية الممتدّة من خليج عالمنا العربي إلى محيطه، مثل تسونامي جارف. لكن، من حُسن الحظّ أنَّ الذين أطلقوا "الجزيرة" الإخباريّةَ فكّروا في "جزيرة للأطفال"، وكذلك فعلت "العربيّة" التي اقترحت "أم بي سي3"، والبحرين التي سبقتهما بـ"سبايس تون" التي قد تنجح في أخذك بعيدا عن دُوَّار اللؤلؤة ودُوار السياسة!بقيت مشكلة واحدة؛ وهيَ أنّني لم أعد طفلاً، ما يعني أنّني قد لا أجدُ مكانا في "جُزر" الأطفال البريئة الحالمة. لا بأس، فثمَّةَ دائما قناة ما قد تقبلُ بي لاجئا فارًّا من جحيم الحرب وصور القتلى والجرحى وصراخ الضحايا وبكائهم!رغم ذلك، فأنا لستُ لاجئَا تلفزيونيا، ذلك أنّني أعجز - حتما - عن الهروب من هذه الحروب التي أتابعها وتتبعني كقَدَر.الحقيقة أنّني كنت طيلة الأشهر الثلاثة الماضية منهمكًا في كتابة عملٍ روائيٍّ للأطفال، وهو ما جعلني بحاجة إلى تلك العوالم الطفوليّة الجميلة المفعمة بالقيم النبيلة والمشاعر الإنسانيّة الراقية، المحبوكة بخيّال عبقريٍّ يقدّم الحكاية كأجمل ما تكون عليه الحكايات. لذلك، فقد شعرتُ بشيءٍ من السعادة، حين طلب منّي زملائي في "الفجر الثقافي" كتابة شيءٍ عن "العلاقة الحميمة التي تربطني بالشخصيّات الكرتونية".فعلا، كانت علاقة حميمة وقويّةً أثّرت عميقا في وجداننا.. من منّا لم يعشق "ساندي بل" الشقراء الرشيقة الطويلة؟ ويحبّ "سالي" ويكره "الآنسة منشين" الشرّيرة القاسية؟ من لم يبكه موت والدة "بوليانا" فهو بلا قلب، لا شكّ.. من منّا لم يعجب بـ"مخلص صديق الحيوان" ويتعلّم درسُا إنسانيا بليغا عن العلاقة القويّة التي تربط الإنسان بالحيوان؟ من منّا لم يتعلّق بمهارة الكابتن ماجد وشجاعة النمر المقنّع وخفّة ساسوكي؟ من منّا لم تحفر هذه الأصوات في مخيّلته؟ قمر الصفدي وغنام غنام وايمان هايل.. وغيرها من الأصوات التي كانت تنطق بها هذه الشخصيات المخلوقة من حبر وألوان.وكما أن في الأدب روائع خالدةً تصلح لكلّ زمان ومكان ولكلّ الأعمار، فإنّ في الرسوم المتحرّكة أعمالا خالدة أيضا: "توم وجيري"، "الفهد الوردي"، وغيرها من الأعمال التي مازلنا نشاهدها دون ملل، فنضخك ونعيد اكتشاف تلك العبقرية المتّقدة وراءها.في مرحلة لاحقةٍ، أصبحت الرسومات أقلّ جمالاً وعمقا، ذلك أن التكنولوجيا طغت على حضور الإنسان كقيمة، وانسحبت الحكاية لصالح العنف الذي أدخلها في صراع مفتوح على الفراغ.. كجيل "بوكيمون". أصبحت الرسوم المتحرّكة أكثر إبهارا، لكنها دون طعم ولون ودون تأثير إنساني. ببساطة، لم تعد الرسوم المتحرّكة تحرّك وجداننا وخيالنا كما كانت تفعل في السابق.الخير شوار"النسر الذهبي".. لعنة الهنود الحمرلعل المدينة الأكثر ارتباطا بوجداني، هي "إلدورادو"، التي قيل إنها مبنية بالذهب الخالص وتوجد في أدغال غابة الأمازون بأمريكا الجنوبية. إنها المدينة التي تشبه كثيرا "إرم ذات العماد" التي يعتقد أنه موجود في الربع الخالي بشبه الجزيرة العربية، و"واو حريرة" في الثقافة التوارقية. لقد كان اسم "إلدورادو" رنينا خاصا مازال يتردد في الذاكرة، وقد سمعته لأول مرة في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، ضمن سلسلة للرسوم المتحركة بعنوان "النسر الذهبي" وبطلها "بيبيرو". وكانت السلسلة رحلة عجيبة في مخطوطات الهنود الحمر وقراءة في تلك الطلاسم التي تعود إلى العهود الغابرة. وكانت تلك السلسلة استثناء في نوعية السلاسل الكارتونية التي تبث في ذلك الوقت، عندما كانت القناة الأرضية الوحيدة تفتح على الخامسة مساء وتغلق بعيد الحادية عشرة ليلا ولا تمنح الأطفال إلا عشرين دقيقة في الأربعة والعشرين ساعة. ولأن الوقت ضيق جدا، فإن الفئة العمرية يوافقها المسلسل الكارتوني المبرمج ستكون سعيدة لأسابيع عديدة وقد تنال تلك الفئة حظا أكثر من غيرها لأن بعض السلاسل لا تلائم كل الفئات كل الوقت. ومع الفراغ الحاجة يجد الطفل نفسه يتابع أي سلسلة مهما كان مستواها الفني، مع السنين يستعيد المرء بعض السلاسل التي بقيت في الذاكرة، ولعل أولها "أوتشي النحلة الصغيرة" الذي كان يبث في نهاية سبعينيات القرن الماضي وباللغة الفرنسية، ثم سلسلة "ريمي" ذلك الطفل الذي دفعته الأقدار لأن يكون في فرقة حد الشعراء الجوالين (تروبادور) زمن الثورة الصناعية في أوربا، ومع تلك الرحلة القاسية نكتشف الجانب الإنساني لذلك التروبادور الذي كان يبدو في البداية فضا غليظ القلب. وتعود إلى الذاكرة سلسلة "توم سوير" المأخوذة عن السيرة الذاتية للكاتب الامريكي مارك توين، وتصور التفاصيل الطريفة لطفولة مشردة، رفقة طفل اسمه على ما أذكر "هات"، الذي يقيم له كوخا صغيرا فوق شجرة كان قد تآمر معه في كشف "صلعة" معلمه التي كان يخفيها داخل "باروكة" واستعمل قطا لفضحه أمام جمع من التلاميذ وهم خارجون من المدرسة. والآن، ومع نجاح فيلم "أليس في بلاد العجائب" في المدة الأخيرة وقد تحولت الحكاية إلى فيلم هوليودي، تعود إلى الذاكرة سلسلة كارتونية كانت قد بثت في ثمانينيات القرن العشرين بالعنوان نفسه، وفيها تخلط الحقيقة بالخيال وتصبح كل الأشياء تتحرك وتتكلم وكأن فيه روح. رغم تزاحم الصور القادمة في سنين ماضية إلا أن صورة "إليدورادو" التي خرجت من مخطوطات الهنود لحمر سرعان ما تحاصرها، وتحافظ على دهشتها الاولى، وكأن الأمر يتعلق بلعنة الهنود الحمر. فائزة مصطفىهي منقوشة على جدران القلب..لأن ذاكرة الطفولة طرية، صافية وخصبة فلا بد أن تتدلى من سمائها عناقيد بكامل نظارتها، نظل زمنا طويلا نستذكر أحلى ما فيها ونحن نكتشف الذوق الأول للأشياء التي تتشكل وتتفتح وتنمو حولنا، كل شيء نلمح وجوده في عالمنا يبدو مدهشا، رائعا وغريبا، كذلك هي الأشياء القاسية التي تأتي مباغتة فتجرحنا جرحا لا يلتئم أبدا، ولو أننا نبدأ في لملمة شظايا حكمة الحياة بأفراحها وأقراحها بأيدينا التي تبدأ رويدا رويدا تنمو وتكبر وتتبدل مع باقي أعضاء جسدنا وأيامنا، تنسى ذاكرتنا مع تقدم الزمن تفاصيلا كثيرة من الأيام الماضية، لكن أيام الطفولة الأولى منقوشة على جدار القلب لا تمحى أو تحول.أنا أتساءل دوما كيف ستكون طفولتنا بدون جهاز التلفاز، تلك الآلة الرهيبة التي كنا نقضي وقتا طويلا في تأمل طريقة خلقها، عجيب صنعها، كيف يمكننا أن نرى كل تلك العوالم داخل صندوق صغير لا يتسع للأصغر فينا حجما، ولأننا كنا نتحجج بأننا صغار حتى لا نفكر كثيرا، نترك للمستقبل الأجوبة كلها، كنا كصديقين وفيين نلتقي في المواعيد نفسها، بل كان التلفزيون بالأبيض والأسود وغالبا ما تستقر الصورة في مكانها فتكفي لمسة الريح صغيرة أن تجعلها تهتز أو تشوشها، كان التلفزيون مثل الفانوس السحري يلبي لنا كل المطالب دون استثناء، كان مطلبنا مطلبا واحدا عزيزا وضروريا، الرسوم المتحركة على الساعة الخامسة، حيث سألتقي بصديقتي الجميلة "سندي بال"، وعلى حسب ما تكتنزه ذاكرتي من صوت ابنة خالي وهي تنادينا بضرورة الالتحاق بالصالون لمشاهدة الحلقة بأنها ستبث باللغة العربية، بعدما بثت فيما مضى باللغة الفرنسية، أنا لا أذكر إلا صوتها الغارق في الروعة والفرح، حيث اكتشفت معها الحروف الأولى للغتي الفصحى، لم أكن أتابع أحداث القصة فطالما لم أفهمها أو أنتبه لأحداثها بقدر ما كنت أهتم بسيارتها الطائرة وكلبها الذي يحلق في السماء، وهي بغمزتها الساحرة تظهر كفراشة وديعة وسط الحلقة صغيرة وأردد معها أغنيتها التي أبتلع نصف حروفها.أذكر أنني كنت أحزن لقصتها وأحس بغصة مؤلمة في حلقي كلما اغرورقت عيناها الواسعتين بأهدابها المرسومة بعناية وهي تبكي والدتها، وأشتاق مثلها إلى أمي. إن سماع أغنية الجنيريك مرة أخرى بعد أكثر من العشرين سنة يشعرني بفرح غامر وخاص من نوعه، ويوقظ في داخلي وابلا من الذكريات وكأنها صور فوتوغرافية ثمينة وجدت في دولاب منسي، تماما كذلك الشعور العنيف الغريب الذي عصر الدمع الدافئ من عيناي وأنا اسمع أغنية "افتح يا سمسم" وقد أرسلتها لي إحدى صديقاتي على صفحتي على الفايس بوك، لقد فتحت الأغنية صفحات عزيزة من أيام الطفولة، وجعلتني أشتاق لوسيلة ومامة ومختارية ونفسية وجلال والراحل قادة وغيرهم الذين تقاسمت معهم أيام عمري الأولى... وقد باعدت بيننا الأيام والأوطان، الحياة والموت.لازلت أذكر كيف كنت أشترط على خالي وأنا ألاحق بخطواتي الصغيرة حقيبته وهو يجرها على قرميد الفناء نحو المخرج الرئيسي لمنزلنا الكبير ألا ينسى أن يجلب لي ما لقنته إياه عندما أخبر جدتي أنه سيسافر مرة أخرى في رحلة عمل إلى أوروبا، أن يأتيني بمئزر "سندي بال" وبنفس لونه وشكله، وربطات شعرها الوردية، كما أذكر أنه قد جلب لي معطف بيبيرو أيضا، والتنورة الدائرية كالتي ترتديها هايدي، وكيف كنت أدور في حلقة وسط زميلاتي في المدرسة مثل الراقص الصوفي، وكنت لا محالة أحس بالاختلاف والتميز، لأني كنت أتمكن من الحصول على تلك الملابس فأقلد بها نجومي المفضلين، من أبطال الرسوم المتحركة، شعور لا يتكرر حتى وإن حصلت على توقيع فوتوغرافي من إليزابث تايلور نفسها. علاوة كوسا"ريمي" سكنني صغيرا.. وحرّكني كبيراكنّا صغارا.. ربّما أبرياء.. لم تنفتح ذاكرتنا إلاّ على الشّيء اليسير الجميل من خفايا هذا العالم.. تمثلُها حكايا الجَدّات، في المنزل، وقصصُ المطالعة في المدرسة، ولكن ّالنّافذة التي فتحتها الرسومُ المتحركةُ ساكنة ٌبعضٌ من تفاصيلها ذاكرتي ووجداني إلى حدّ الآن.. وإلى الأبد..كنت مولعا بحلقات "ريمي" إلى درجة البكاء معه، وهو يطوي المسافات، يسائل الأمكنة، يخترق المواقيت.. لأجل إدراك "أمّ" لم يرها، كنت لا أفقه في تلك السن ّ جماليات القصص وفنّياتها، وسلطة َالمكان، وعبثَ الزّمان، وفتنة َالشّخصيات، لا أعرف دلالات الدّروب، وأسئلةَ الذّاكرة، لم أكن أعي معنى الاحتراق، وعذابَ الأمنيات التي لم تتحقّق ولكنّي كنت أعيشها، أتحسّسها، أشارك الأبطالَ هواجسَهم، والأماكنَ مقولاتها، والدّروبَ حيرتَها.. ويوما بعد يوم.. كنت أكبر.. وصرت متخصّصا في جماليات الحكي، وكاتبا للنّصوص القصصيّة، ومربيّا لأجيال من الطلبة ودخلت معتركات حياة الكبار بكل أتعابها، لكنّها للأسف - لحسن الحظ - لم تُنسِني تلك الأحاسيسَ الرائعةَ التي عشتها مع هذا الصّبي الظّريف الوديع "ريمي".. مازالت عيونُه تراني، أقاسمه السّؤالَ، التّرحالَ، مازالت موسيقاه، عزفه، حلمه، حيرته، تسكنني، كنت أتمنّى أن أكون معه، كنت أتمنى ألاّ يدرك مرادَه، لكي تطولَ رحلتُه، أقصد رحلتي.يحدث أحيانا أن تلتقط أذناي صدفة، في أي مكان، موسيقى الجنيريك التي تشبه موسيقاه أو أسمع اسما يشبه اسمه "ريمي".. كان هذا يكفي لأن استرجع / استرد ذكرياتي، صباي، أحلامي التي كانت تنام معي.."ريمي" شخصية وهمية، خيالية، صنعها مبدع ما، قاص ما.. لكنّني اعتبرتها حقيقة، وصنعتْ مني ما كنت أتمنى أن أكونه.. اليوم َوقد تحققت كل أحلامي.. أتمنى أن ألتقي "ريمي" أو من يشبهه.. لعلي أصير طفلا.. طفلا.. طفلا.. ولو للحظة واحدة.. وليس ذلك بالمستحيل.هاجر.ق/حياة.س


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)