سوف تكون ياسمينة صالح من أهم الأسماء الروائية الجزائرية، هي تملك مقومات الكاتب الروائي الجيد: النفس الطويل، القدرة على الإدهاش، واللغة الجميلة.
لا أنكر أنني لا أعرف عن الأدب الجزائري سوى الأسماء المتداولة إعلاميا، لكني أعجبت كثيرا بالتجربة الأدبية للروائي الراحل الطاهر وطار، ذات الخصوصية الجزائرية المميّزة، كما أعجبت بكاتب ياسين حين حظيت بقراءة الترجمة العربية لرواية "النجمة"، وشدتني التجربة المميزة للروائي واسيني الأعرج، وكنت دائم البحث عن التجربة النسائية الجزائرية في الكتابة الروائية، استوقفتني ككل القراء الروائية أحلام مستغانمي في ثلاثيتها، التي أعتبرها رواية واحدة مكررة، ولا أنكر أن كتابها "نسيان دوت كوم" خيّب ظني كثيرا إزاء ما فيه من حروب جانبية تريد الكاتبة خوضها على حساب الحروب الحقيقية والمصيرية التي يواجهها الإنسان العربي، مع ذلك تبقى روايتها "ذاكرة الجسد" الأفضل!
وقرأت أخيرا لياسمينة صالح ثلاث روايات دفعة واحدة: "بحر الصمت" (الطبعة الثانية الصادرة عن دار الحضارة بالقاهرة 2009)، "وطن من زجاج" (الصادرة عن الدار العربية للعلوم ببيروت 2006)، وأخيرا رواية "لخضر" (الصادرة عن المؤسسة العربية للنشر ببيروت 2010). والحقيقة أنني تفاجأت كثيرا وأنا أصافح هذه التجربة الروائية الجزائرية الشابة، تفاجأت لأني أجد شيئا مختلفا، وروحا جديدة، بدم جزائري عميق وحار، وأشكر كثيرا معرض الكتاب الأخير في مدينة مسقط الذي أتاح لي هذه المتعة، فأنا لست أبالغ إن قلت إنني لأول مرة منذ فترة أخرج بإحساس جميل بعد قراءة مجموعة من الروايات دفعة واحدة، ومع ذلك سوف أتناول اليوم رواية لخضر باعتبارها الرواية الأخيرة لياسمينة صالح، ولأنها في اعتقادي تجربة روائية جديدة بالنسبة لي، تحمل في طياتها جمالية الرواية الحديثة بامتياز..
• لخضر: شاهد عيان واقع جزائري/ عربي !
ما يثير الانتباه في رواية لخضر أن كاتبتها امرأة، ومع ذلك، لم نلحظ من بداية الرواية إلى نهايتها تلك الثيمة النسوية الرديئة التي طالما تعودنا على قراءتها في روايات تكتبها المرأة مصورة عالم الأنوثة بالمقهور، بحيث وقعت الكثير من الكاتبات العربيات في فخ الكتابة الجاهزة عن المرأة، بتصوريها كائنا ضعيفا في واقع ذكوري اضطهادي. ما بين أيدينا رواية مختلفة تماما في الشكل والمضمون، فالكاتبة لا تبدو معنية بالثيمات التقليدية التي تتحدث عن العلاقة بين المرأة والرجل، بل على العكس، تبدو الكاتبة معنية بما هو أهم: علاقتهما معا بالحياة، وكيف يتعاطى كل واحد منهما معها، ضمن ما هو متاح. فلخضر ـ الشخصية الرئيسية ـ رجل مضطهد، ومقهور داخل واقع يقهر المرأة أيضا، إذ يبدو الرجل والمرأة ضحيتين لذات الواقع القاسي.
لقد أدركت ياسمينة صالح منذ روايتها الأولى "بحر الصمت" (2001) أن التراكمات التي فرضتها السنوات العجاف، سواء سنوات ما قبل الاستقلال وما بعده قد تحولت إلى عبء رهيب على كاهل الرجل والمرأة، إذ أن كليهما يعاني بطريقته تحت وطأة الظروف التي همّشتهما معا، ووضعتهما معا على الحافة وربما فرضت عليهما صراعات مضادة وحروبا جانبية في مجملها، وهو ما يبدو جليا في شخصية "لخضر"ـ الشخصية الرئيسية في الرواية ذاتها، فعبر مراحل من عمره نقلتنا إليها الكاتبة بأسلوب شيق، ومداهمات مدهشة داخل الذاكرة وخارجها، فالسرد لدى ياسمينة صالح غالبا ما يتحول إلى طريقة حميمة تجعلك تجري خلف السطور بإحساس غريب من الخوف، ومن الأمل، ومن التساؤل إزاء ما سوف تذهب إليه الأحداث.
بين لخضر الشاب، ولخضر الرجل، ولخضر العجوز، تتحول التفاصيل إلى حلقات أقرب إلى المشهد السينمائي، إذ يبدو لخضر الشخصية المحورية هو البطل، لتكتشف أن كل شخصية في الرواية "نجاة (الأولى)، السي عثمان، السي الطيب، نجاة (الثانية)، الباهي، جمال... الخ"، تحمل صفة البطولة في زاوية ما من النص الروائي، بحيث تختلف الشخصيات في طريقة تفكيرها وحياتها، وتكوينها، مع ذلك تربطها علاقة ما بلخضر (الشخصية المحورية)!
لقد وضعت الكاتبة بطلها الرئيسي داخل حيوات كثيرة، كانت تنتقل به من اللاشيء إلى ما يشبه المأساة المركبة في حياته، من حبه الأول إلى حبه الأخير، ومن طموحه الذي بدأ عاديا ليتحول إلى معارك شرسة حولته إلى مجرم بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، مع ذلك، لم ينفصل القارئ عن العلاقة التي ربطته من البداية بلخضر، بحيث يتعاطف معه تارة، ويغضب منه تارة أخرى، ويكرهه، ثم يعود للتعاطف معه رغم كل ما فعله، ربما لأن ثمة دوافع وأسباب لكل شيء، كما تقول الكاتبة التي ترسم ببراعة الصورة الأكثر قسوة لإنسان فقد قلبه، وروحه، وتحول إلى آلة قتل مستمرة، ليجد نفسه وجها لوجه مع ذاته، راغبا في استعادة إنسانيته المفقودة ولو بدور أب غير مكتمل الشعور!
لقد استطاعت الكاتبة ببراعة أن تنقل القارئ إلى مشاهد يومية لجزائر عاشت أبشع أنواع العنف إبان التسعينيات، لتخرج مجروحة في كرامتها، وفي كبريائها كدولة صنعت أكبر ثورة في التاريخ الحديث. تبدو الكاتبة متأثرة جدا بهذا الجرح الذي لامس روحها، بدليل أنها تناولته في روايتين متتاليتين، وبفكرتين مختلفتين، بحيث أن رواية "لخضر" في اعتقادي تظل أجمل رواية قرأتها في الفترة الماضية من حيث تركيبتها الفنية، ومن حيث جرأة الطرح السياسي والإيديولوجي والفكري، ومن حيث قيمتها كرواية جزائرية حديثة تستحق القراءة، إذ تبدو قابلة لأكثر من طريقة في القراءة، ومفتوحة على كل الآراء، فيما يخص أحداثها، وتعاطيها مع "العقاب" ضمن تلك المساءلة: هل حقا أن العفو المدني قادر على غسل ذاكرة لطخها الدم من رأسها إلى أخمص قدميها.. ثم والعفو على من؟ وأين الحقيقة؟ ومن يحق له أن يعفو؟
إنها الأسئلة التي تختزلها رواية واحدة، تحمل في طياتها الكثير من الأصوات التي في اعتقادي برعت الكاتبة فيها كثيرا، إذ أنها أعطت مساحة من الجمال الفني داخل نصها الأدبي، ضمن لغتها الجميلة والحارة، ورصدها المدهش لشخصيات الرواية، ودخولها إلى عمق أفكارهم ومشاعرهم.
لقد كانت رواية "لخضر" أشبه بالمفاجأة الجميلة بالنسبة لي، لسببين أولهما أن الإعلام الذي يسوّق لكتاب معيّنين لا يمكنه أن يقف في وجه كاتبة متميزة كهذه الكاتبة مثلا، وثانيا أن الجزائر بلد المليون ونصف المليون شهيد تظل واحدة من رواد الرواية العربية عن جدارة واستحقاق، وأعتقد أن ياسمينة صالح بموهبتها الكبيرة وقدرتها الرائعة على الكتابة والإبداع، سوف تكون قريبا من أهم الأسماء الروائية الجزائرية، هي تملك أهم مقومات الكاتب الروائي الجيد: النفس الطويل، القدرة على الإدهاش، واللغة الجميلة، وهذا لعمري يجعلها في نظري روائية جيّدة بامتياز.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 23/07/2011
مضاف من طرف : infoalgerie
صاحب المقال : سعيد بن خاطر المنصوري ـ أكاديمي عُماني يقيم في الإمارات
المصدر : ميدل ايست أونلاين