الجزائر

عائد من دمشق ينقل وقائع ما يجري على الأرض في زمن الحرب الجامع الأموي... ينبوع المحبة و التسامح الديني



تطرقنا في الحلقة الرابعة من نهار أمس، إلى اللقاء الهام الذي جمعنا بنقيب الصاحفيين السوريين إلياس مراد، الذي دعا فيه " الإعلاميين الجزائريين للانضمام إلى اتحاد الصحافيين العرب، بهدف إحداث توازن في المواقف داخل هذه النقابة ، و إعطاء دفع أكبر لأصحاب الفكر القومي المعروفين بدفاعهم المستميت عن القضايا العربية العادلة "، كما أبرزنا كذلك مسألة افتخار و اعتزاز السوريين بالجزائرشعبا و قيادة، و حفظهم للنشيد قسما عن ظهر قلب، مما يبرهن وجود جسور محبة و أخوة بين الشعبين الجزائري و السوري الشقيقين.أزمة نفسية عميقة لدى السوريين
تركت الطفل السوري، و قد أثر كلامه فيّ كثيرا، كيف لا و قد لخّص لي في كلمات معدودات حقيقة ما تعيشه سوريا اليوم، ... قال لي صديقي في الوفد الجزائري خميسي مختار ( متصرف إداري بإحدى بلديات وهران )، إن هذا الأمر يؤكد فعلا أن الأزمة السورية عميقة و هزّاتها الارتدادية أصابت حتى الأطفال الصغار، الذين باتوا اليوم يعيشون حالة من الخوف و الذعر على مستقبلهم، مثلهم مثل باقي المواطنين السوريين الكبار في السن، مذكرا بالحوار السابق الذي أجرته صحيفة " فرانكفورتر الغيماينه تسايتونغ الألمانية " مع الرئيس بشار الأسد الذي قال في أحد مقتطفاته " سنعيد إعمار بلادنا.. الأصعب هو إعادة إعمار نفوس من تضرروا.. فكيف لك أن تمحو الآثار الاجتماعية للأزمة وعلى رأسها التطرف... أعتقد أن الإعمار الحقيقي هو إعادة إعمار العقل والايديولوجيات والمفاهيم.. فالحجر غال لكن البشر أغلى.. والتحدي هو أن نعيد بناء البشر والحجر " صدقت زميلي مختار خميسي القول و عقبت على كلامه مضيفا " إن مسؤولية إعادة النفوس أصعب و أثقل من إعادة إعمار المباني، المقرات و المدن المتضررة من القصف "...
فسيفاء الجامع الأموي تسر الناظرين
توجهت بعدها إلى بيت الوضوء لأتوضأ، وقفت بمفردي في وسط باحة الجامع الأموي الفسيحة، أتأمل الفسيفساء الجميلة و المذهلة التي زيّنت المسجد الذي بناه الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك عام سنة 86ه (الموافق ل 705 م) حيث كساه وزينه بالفسيفساء والمنمنمات والنقوش وأفضل ما زينت به المساجد في تاريخ الإسلام، أذهلتني صراحة طريقة تشييده الساحرة، كانت آية في الجمال و الإبداع، تشعر و أنت تحذق في علوّ جدرانه القديمة بالراحة و الطمأنينة، و أما مئذنة العروس التي تعتبر أول مئذنة في تاريخ الإسلام ، فلا تزال شامخة شاهقة بفضل العناية الإلهية التي خصها إياها المولى عزّ وجل ، بل و حماها ببركاته السرمدية الأزلية، من كل أشكال القصف الذي تعرضت له من قبل المسلحين في السابق... شعرت وقتها و كأنها كانت تخاطبني و تقول لي : " لا تقلق عليّ لا زلت صامدة و رافضة لكل أشكال الانكسار و الاستسلام، أنا واقفة و لن أكون مقدمة لإعلان بداية تحَطُّم و سقوط أحد معالم و أوتاد الحضارة الشامية العريقة... كان وقتها العديد من الزوار جالسين على جنبات جدران المسجد الخارجية، متخفين عن أشعة الشمس اللافحة، يتأملون أولادهم و فلذات أكبادهم يلعبون في الباحة، تفاجأت كذلك بطريقة تشييد بيت الوضوء، وجدتها تحمل لمسة فنية عربية أصيلة، بل و حافظت على الطراز العمراني الإسلامي الذي لا يزال الجامع الأموي يحتفظ به إلى اليومنا... توضأت، شربت قليلا من الماء هذا الطاهر العذب، الذي كان باردا عليلا و عذبا يطفأ ظمأ العطشان، توجهت إلى المسجد لأداء الصلاة، و كان وقتها الإمام قد صعد إلى المنبر، لاحظت و أنا أهمّ بالدخول إلى الجامع، توافد عدد كبيرا من المواطنين السوريين على هذا الصرح الإسلامي العريق، و ما شدّ انتباهي هو أنه حتى النساء مسموح لهن بزيارة المعلم، إذ يقوم " مكتب العباءات للعرب و الأجانب " بمنح الفتيات المتبرجات عباءات يرتدينها و تدثرن بها ، حتى يتمكّن من زيارة هذا المكان التاريخي الساحر.
خطبة الجمعة حول الثورة الجزائرية
كانت الحراسة مشددة و صارمة عند المدخل المسجد، لا تدخل بداخله حتى يتأكد القائمون على الأمن الجامع من أنك لا تحمل معك أي شيء محظور و ممنوع مخافة من وقوع تفجيرات إرهابية تستهدف المدنيين كتلك التي تعرض لها في السابق مسجد الإيمان الذي استشهد فيها العلامة سعيد رمضان البوطي، ... إذ قام أحد رجال الأمن المدني بتفتيشنا جيدا حتى يتأكد من أننا لا نحمل معنا أي مواد أو أحزمة متفجرة، كان رجلا مسنا طيبا، و مؤمنا بقضاء الله و قدره، أخبرناه بأننا قدمنا من الجزائر، و جئنا خصيصا إلى دمشق للوقوف على حقيقة ما يجري في هذه الدولة الشقيقة، في البداية اعتذر على إخضاعنا لإجراءات التفتيش الروتينية، و قال لنا بأن بلده يعيش هذه الأيام حالة طوارئ قصوى، و أن جميع أحرار و حرائر سوريا مجندون لنداء الوطن الجريح، و دون إطالة قلت له بأن هذه الأرض ستبقى صامدة و واقفة، و أن من يريد بها كيدا سيرد الله عليه كيده، وقتئذ حمل هذا الشيخ يديه إلى السماء و بدأ يدعو الله و يستجديه أن يطفئ لهيب هذه الفتنة المستعرة بين الإخوة الفرقاء، سلّمت على هذا الرجل الطيب ثم دخلت بعدها إلى المسجد، لم يكن حينها عدد المصلين كبيرا، و لكنهم أدركوا أني لست دمشقيا، أدركوا أنني أحد أفراد الوفد الشعبي الجزائري، لاسيما و أن الكثير منهم كان قد شاهدني و أنا أجري بعض الحوارات الصحفية مع بعض وسائل الإعلام السورية، جلست بجانب أحد زملائي الذين جاءوا معي من الجزائر و بدأت أتأمل في طريقة تشييد هذا المعلم الإسلامي التاريخي، كانت زرابيّه مبثوثة بانتظام، أنواره متلألئة و ساطعة، محرابه عالِ كالطود الشامخ، فسيفساؤه و زجاج نوافذه جميلة و باهية، باختصار كان مسجدا يجمع بين " الأصالة و المعاصرة " يروي حقيقة تعايش المسلمين و المسحيين باعتبار أنه كان كنيسة قبل أن يتم تحويله إلى جامع فيما بعد، و باعتبار أن إمام المسجد كان يعلم بتواجد الوفد الجزائري بداخل الجامع فإنه خصص خطبة الجمعة للحديث عن مآثر و أمجاد ثورتنا التحريرية المباركة، و قال إن الشعب الجزائري استطاع أن يصنع ملحمة تاريخية ستظل كتب التاريخ تذكرها مهما طال الزمن و الأمد، و أكد أن سر نجاح هذه الثورة التحريرية المظفرة يكمن في الصبر و التحلي بسلاحي الإيمان و عدالة القضية، داعيا السوريين إلى التشبث بهذه القيم الوطنية الجزائرية النبيلة، مؤكدا أن الجزائر تمكنت من طرد الاستعمار الفرنسي بعد 132 سنة من الاحتلال، و من ثمة فإن سوريا قادرة على الخروج من محنتها لو تمسكت بهذه الأسلحة التي كان يحملها الشعب الجزائر في قلبه، كانت بالفعل خطبة مؤثرة و تحمل الكثير من الدلائل و المعاني، أدينا صلاة الجمعة خلف الإمام مأمون رحمة، و بعدما فرغنا منها توجه الوفد إلى سماحته و سلّمنا عليه الواحدة تلو الآخر، حيث شكرنا كثيرا على الزيارة التي وصفها بالتضامنية و الأخوية، و قال لنا بأن سوريا ستبقى شامخة و واقفة على قدميها، داعيا الله أن يكون شهر رمضان سانحة لتضميد الجراح و طيّ هذه الصفحة القاتمة من تاريخ سوريا المشرق.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)