الجزائر

ظاهرة العنف في رواية الألسنة الزرقاء لسالمي ناصر (الجزء الثالث)



عين آدم المكان المنغلق على العنف والإشاعة والموت:
تشكّل عين آدم مكانا مغلقا على العنف بنوعيه المادي (الموت والإرهاب والنزاعات القبيلية) والمعنوي أو اللفظي (الإشاعة، الألم، العزلة، والحزن) غير أن اتصالها بالعنف اللفظي المتمثل في الإشاعة كان أكثر، فهي المكان الذي لم يعد يستيقظ أهله وينامون إلا على (هديل الإشاعة، وزقزقة الأقاويل)، فلا شيء في هذه القرية غير الإشاعة تزين مجالس أهلها، وتتلذذها ألسنتهم، وتستطيبها آذانهم، وتستطربها أسماعهم، كما لم يعد (يصدر عنها سوى فحيح ألسنة الأفاعي وكشيش جلدها)، مما صيرها بؤرة وبائية تفوح منها رائحة الإشاعة من كل مكان. إذ (تطل الإشاعة كغيمة عطر أليفة، وتمر بين الدور والمحال، فتأسر العيون والقلوب، لكنها سرعان ما تتلبد، وتتوشح بألوان كريهة كالدخان والدم والطاعون والسكاكين الصدئة، فتغزو البيوت، وتحتل الشرفات، وتلتهم الصدور المسلولة، والضمائر النخرة قبل أن تنقض كالوحش الضاري على فرائسها المثخنة بالجراح). فلا يكاد يُرى أو يسمع في هذه القرية غير أخبار الإشاعة والإرهاب والخلافات العشائرية والعنف والدم، وكل ما من شأنه أن يزرع الرعب والخوف في نفوس أهلها وقاطنيها.
وذلك من قبيل: (الدّيب، نعم الدّيب كان البارحة هنا..). (ألم يمت؟ ألم تشهد عين آدم كلها جنازته؟ ألم تتعرف زوجته عليه؟ فكيف عاد إلى الظهور؟ لاشك أنها أوهام، وهي واحدة من تلك الأمور الغريبة، والأخبار العجيبة التي لا يدري أحد كيف تظهر وتنتشر. أليس من الواجب التأكد من الخبر قبل أن يشاع؟ لا أحد يفعل ذلك، كلنا متورطون في الإشاعة...فهل يكون الدّيب حيا؟ وما معنى أن يكون حيا؟). وما معنى (حيرة ولد العايب الذي وجد اسم عبد الرحمن مكتوبا بدم العيساوي ولد الناير المذبوح فجرا على باب المسجد، الكثيرون صدقوا أن عبد الرحمن الدّيب عاد ولكن البعض قال إن ذلك ليس دليلا كافيا على أن الدّيب حي، فضلا عن أن يكون هو القاتل). و(يقولون منصور ولد المكي طلع ليلة البارحة للجبل...). [ويقولون أنه] (وراء الرصاص الذي سمع منذ أيام، وقد صعد فعلا إلى الجبل، وعاد البارحة، فهجم على أحمد ولد الغالي، لكنه لم يكن ببيته). ومن قبيل كذلك ما جاء على لسان السارد: (وقد نزل خبر وفاة أحمد ولد الغالي المعروف بالجيعان على الناس كالصاعقة...فلم يشك أحد أحد في أن أحمد ولد الغالي قتل، وأن قاتله لن يكون سوى المكي ولد الناير أو أحد أبنائه...وسرت الشائعات حول مكان المكي وأبنائه، لكن لا أحد كان في مقدوره أن يحدد المكان).
تفصح الأمثلة السابقة عن صورة قاتمة للأوضاع في قرية عين آدم، صورة عن الرعب والخوف والقلق الذي يتملك قلوب المواطنين، فلا حديث يدور بينهم سوى عن "عبد الرحمن الدّيب" الإرهابي الخطير، وعن جرائمه ومجازره، ولا شغل لهم سوى تتبع الأخبار وتلقف الشائعات وتحريها في كل مكان، وبشتى الوسائل والطرق، فهي تعد بالنسبة لهم بمثابة موائد دسمة يجتمعون حولها ويفترقون منتشين ومسرورين.
هكذا يتسلط العنف على قرية عين آدم، وهكذا تنغلق عليه، في مختلف مستوياته الدرامية والخطابية، حيث باتت القرية مسرحا للعنف والموت، ومكانا لتناقل الأخبار السيئة والكاذبة، التي أججت من نيران الفرقة والتشتت والخلافات العشائرية، ورفعت من حجم المعاناة الاجتماعية والاقتصادية فيها. ولعل ذلك كان امتدادا طبيعيا لمختلف أشكال الصراعات الإيديولوجية والتطرف الحزبي والطائفي في فترة الإرهاب، لذلك تجسّد عين آدم دلالة لصورة مصغرة عن الوطن (الجزائر) على الصعيدين السياسي والاجتماعي، لأن ما حدث في عين آدم، ليس مختلفا عما كان يجري في كل أرجاء الوطن وفي مختلف ربوعه آنذاك.
لقد بلغ عنف الإشاعة مداه في عين آدم، ولم يعد يسلم من تأثيرها أحد من ساكنتها، لأنها كانت لا تترك محلا أو مكانا من أمكنتها إلا استوطنته واسبدّت به (المقهى، المدرسة، المسجد، المستوصف، البيوت، الشوارع، السوق، الدكان، التجمعات، الولائم...)، حتى إنها أصبحت مهنة احترفها مروجوها من أهل هذه القرية، لنشر الأراجيف والشائعات وزعزعة الاستقرار بين الأهالي والسكان، إذ (تتلقف الآذان الخبر من الثقوب والشبابيك الموصدة، فتمتلئ الشرفات بالشحيج والسحيل والخوار واليعار والنبيب، وتتحول عين آدم شيئا فشيئا إلى حظيرة تملأ شوارعها البغال والحمير والماعز والتيوس، وغابة تطل من قيعانها التماسيح والأفاعي، وترتص في أسطحها جوقة الذئاب المتحجرة). بل الأكثر من ذلك لما تتحول الإشاعة إلى ظاهرة مرضية ووبائية، تفتك بالنفوس، وتُزهق بسببها الأرواح، وتُراق الدماء.(هكذا تشكلت عين آدم، لكنها أصبحت مع مرور الزمن حالة مرضية تحمل في كيانها جميع الجراثيم، والعلل التي يمكن لمدينة أن تصاب بها، فعين آدم ليست المكان الذي يحلم به الإنسان، أو يحلم فيه...وجه متخلف وكئيب، ومثير للتأسف والشفقة أكثر من أي شعور آخر، صورة رقيقة وبريئة، مشفقة ومتقشفة، ودودة ومضيافة، غير أنها صورة كاذبة خاطئة، وقناع زائف لوجه شائن وقبيح، مدينة بائسة بأهلها المتمترسين خلف أسيجة رفعوها عاليا، وهم مستعدون دائما للقتال من أجل الدفاع عنها، وقد تصل القطيعة بين السكان حداً تتشابك فيه الأيدي، والخناجر، والبنادق، وتتواجه فيه الأحياء والقرى).
هكذا هي عين آدم، وهكذا كان عليه الحال في جل أماكنها، وفضاءاتها، وهكذا هو حال القرى وأهلها، ولو أن القرآن الكريم قد فصل في شأن أهل القرى، وبين أوصافهم وطبائعهم. غير أننا هنا يجب أن نشير إلى أن قرية "عين آدم" ليست سوى رمز لما عاشه الوطن (الجزائر) في تلك الحقبة الزمنية المثخنة بالجراح. إذ نجد أنفسنا (إزاء قرية هي الوطن، تعري واقع المكان من خلال كشف أفعال الشخصيات وهم يزاولون حركتهم اليومية المصحوبة بالعنف المتصاعد والمتخفي في جنح الظلام)، أو في وضح النهار، وهو ما جسدته سلوكات الشخصيات حين تبادلها للأدوار العنيفة نفسها، سواء في الأماكن المفتوحة، أو في الأماكن المغلقة مثل المقهى المكان الرئيسي والبؤرة المركزية في الرواية، وهو المكان الذي ستركز عليه هذه الدراسة على أساس أنه أحد أبرز الأمكنة الحيوية والفاعلة في النص الروائي، ولأنه المكان الذي احتضن الشائعات ومروجيها، وأسهم في تفاعله مع الشخصيات والزمن في صناعة العنف في النص الروائي؛ إذ لم يكن رقعة جغرافية منفصلة ومعزولة عن الأحداث الروائية.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)