الجزائر - A la une


سقطت في بطن الحوت
مرفوعة مصافاة ومواددة إلى صديقي الأديب الكبير الرهيف حنا مينا، وحده
قطعة الجمال العائمة في بحر الخراب الكوني، وتذكرت حواره في بيته ذات شتاء 2010 تتسارع الظلمات، كأننا في بطن الحوت، في عمق ما يتقاذفنا مجداف المعنى، إلى شواطئ لا نعلمها ولا نصل إلى بر إلا وهناك إيذان بالبحر وبعمق آخر، وتتوالى الأعماق، وبين الفينة والأخرى ترشنا النجاة بعبقها الممدود، من وقت إلى آخر نجدنا في أماكن لم نتوقعها أو نألفها، أو نشهد الأماكن فينا، أبناك حدائق مقلوبة بساتين تربض في ذواكرنا مساجد لطيفة قرى محصنة طرقات أبواب أشجار متعبة ونخل كثيف، بل والأزمنة أيضا تطلع من أفئدتنا كأنها عطر من جزر الصباح يمد رقبته، أو نصطف كالتلاميذ في أبهاء المدارس المحفوفة بزهور الطفولة والياسمين والفل الجوري والعصافير الملونة، لاستقبال الدراسة، ونحن عائدون أو ذاهبون، مغادرون أو آيبون، نغادر أشلاءنا وأفكارنا وأجسادنا التي لها شكول اللحيظات المضيئة الخاطفة، وتتأبّى أن تبرحنا أو تخرج من معاطفنا وقد غمرتها الألفة، كالحساسين التي ترافق أكتاف مألوفيها أو أشجار السّرو العالية، أو كالبجعات الجميلات تقبل شفاه الأمواج العاتية التي تعانق السماء بصفاء يذبح البشر، هذه المرة لم يستطع -كأي مرة- التعبير بلسانه ولا بصمته كل اللغات المتضادة عاجزة ولا حتى بالحبر كان يعتقد ذلك الأحرف الصماء لم تعد تقول ما يرومه هذا الشاب في عمر العطور، الشاب اليانع الذي أثقله سيزيفه بالمآسي وانتظار عروس الخلود، أتعسه سيزيفه الأبدي بجبال التفكر، وتحدّس معشوقته بعذريتها العارية من كل بياض مصطنع، تعب من تراقص شخصيات أسطورية في يقينه أبرزها “جلشامش" البابليّ في قصور خيالاته وعلى أفناء مشاعره المسدلة كشعر النهر على طبيعة بكر ممدة على أسطح الحياة وعلى جبين الكون تتبصر المغازلة، أو كالقمر أو الأغصان المندّاة، وأرد اختلاق طريقة أخرى لم يتكلمها إديوجين ولا سقراط ولا أفلاطون ولا أرسطو طاليس ولا هوراس ولا فرجيل ولا أي شاعر كبير مثل طاغور أو ناظم حكمت أو رسول حمزاتوف أو عبد الكريم الناعم أو أية حمامة شاعرة أو نسر وادع.
كلهم لا يبينون الشعر وحده من يتكلم أو الحقائق التي لها شفاه وعقل، واللاّحقائق هي أيضا حقائق مصوغة من الصمت أو من كلام لسانه غريب جدا بمعنى أننا في ميتافيزيقا اللغة، نخرق جدر المعاني المغشاة بالأسئلة لا نقوى على قطف شعرها المسدول على حبل الفكر العالي إنها سور محاصر بالشراك، لا فكاك من التسلق مع ذلك كلهم غير قادرين هناك قوى خفية لا تقال إلاّ بلغى العصافير أو الدموع أو الفلسفات الطّوتميّة أو السفسطائية أو ما يدبّ على جفون الحياة من ظاهر ومحسوس وخبيئ أسمع ركزها الكلمات وهي تغلي كمرجلة، كغليون أبي لكنّني لم أحط علما بفك شفراتها اللغة الغاصبة والمغصوبة لم يعد تعريف إدوارد سابير للغة يهمّني المعنى داخلي يزداد توحشا، ولم ألحق بالذات التي لبست روح الهروب، أو بلعت قطار الضياع والتقافز فوق أصص العالم المجهول، مولوعة بالمجاهيل، تريد خطوة بيكاسو طبعا البحث عن المجهول هو لقاء مع المعلوم، هو نطفة الإبداع هو تلقيح كروموزومات الفن الخالد، كل الفلسفات اللونية أيضا لا تجدي لا فلسفة ماتيس ولا غوغان ولا شيشكين ولا رامبرانت، هذا خلق الله، هذا صنعه، ما الحياة؟ ما الشكل؟ ما الصورة؟ ما الحب؟ ما الفكرة؟ ما المعنى؟ ما الموت؟ ما السعادة؟ وهلم جرّا.
مازلنا نبحث عن أنفسنا، إذ سقطت في بطن الحوت كالفتاة التي هي الجمال في قصص العالم السفلي أو نعائم الفردوس العلوية الدانتية، لكنه تحسس حوته، عمقه كل منا له محيط أسود كعمق الحوت الذي أكل بلع سيدنا يونس، عاود تفحصه آهاته القديمة المتجذّرة في خلاياه ودمائه، وفي ظلمائه أين تقبع.. من دفع بها إلى اتخاذه ملجأ أو مغارة أو مدخلا داخل معناه الحلزوني؟ أو كلؤلؤة جميلة، خداها محمران خرجت من أثواب البهاء الأزرق، داخل مصانعه الخاصة وآلات طباعته ونسخه وتشكيله مرات أخرى.
لولا ولجت حديقة أو بستانا ما.. استعمرت شكل لحظة لها جفون سوداء ووجه ممزق، هي لحظة الانعدام في لذتي الموت والحياة، لحظة صبح، لكنه مكث أمة من الزّمن يبحث عنها لا هي موجودة ولا هو كائن، هي تعمر المكان ولا نراها ينقب عنها خارجه، فوجدها داخله ولما أغرق ذاكرته فيها انفلتت كالبركان أو كدويبة البراق إلى سماوات معراجه الأخيرة، ما يقول “ريتشارد وأوغدن" في أن العوالم اللغوية التي تحدها أصوات اللغة لها أطر خارجية مشار إليها هو ينطبق على كل الموجودات والمجردات والمحسوسات إلا هي الذات، أنت، أو ما يدغدغها من أترابها كحمامات تتغازل على سعف الندى والتشوق المحرق وتطعم بعضها شفاه بعض هي خارج العلامة اللسانية السوسيرية، وخارج شرنقة الوجود هي تملك عتبته الخضراء وأبوابه ومفاتيحه، هي موصولة بنعيم الغيب والقلب، قطافها عذبة، وأثمارها دانية، وسواقيها الخمرية جارية بديمومتها، وعسل الشفاه المسكر، لا تألّبي الجرح وتنكئي الرهاقات الكثيرة، أنت الذات التي عبر عنها أفلاطون بالقصيدة المجنحة ذات الجناحين الهلاميين السحريين، أنت “سيرسيه" التي تحول كل الناس خنازير ماعدا أخيليوسها الذي تحبّ، واستقرت في بطن الحوت في بحر الكلام العائم، والحورية التي لا تموت على سواحل بهجتي وثغري ووصائد حزني أيضا.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)