الجزائر

رحلة عشق لأبي الفنون



رحلت مؤخرا، الكاتبة المسرحية الجزائرية فاطمة غالير (أو فاطمة بوريشة)، المولودة بمدينة الحروش بسكيكدة في 7 أوت 1944. فاطمة تكتب باللغة الفرنسية القصة القصيرة والمسرحية، ولها مجموعة من الإصدارات باللغة التي تكتب بها، وقد ترجمت مجموعة من نصوصها المسرحية إلى اللغة العربية، وصدرت الترجمة في منشورات الهيئة العربية للمسرح، ونصوص فاطمة المسرحية، تم تقديم بعضها على ركوح مسارح فرنسية ولقيت نجاحا واهتماما من قبل الإعلاميين والنقاد الذين أشادوا بها كثيرا.انتقلت فاطمة للعيش في فرنسا نهائيا، بعد زواجها من رجل فرنسي، واتخذت جنسيته جنسية لها، لم تجد أعمالها المسرحية طريقها إلى الركح في المسارح الجزائرية، رغم أن موضوعاتها تتحدث عن وطنها الجزائر.
فاطمة غالير خريجة جامعة الجزائر العاصمة، متحصلة على ليسانس في الأدب الفرنسي، وفي السينما عن جامعة "فانسون" الفرنسية، كتبت ما يزيد عن 20 نصا مسرحياً تمت ترجمتها إلى لغات كثيرة.
فازت بجائزة "أرليتي" سنة 1990، وجائزة "كاتب ياسين" و"مالك حداد" عن مركز "نور الدين عبة" سنة 1993، وجائزة "أميك" من الأكاديمية الفرنسية سنة 1994 عن مجموع أعمالها المسرحية، علاوة عن الكثير من جوائز التقدير التي نالتها عن أعمالها الإبداعية، وهي أحد أعضاء الأكاديمية الدولية للكتاب الدراميين "لشاتيون"، كما تحصلت على منحة من "بومارشي" ومنحة أخرى عن المركز الوطني للكتاب سنة 2005.
اشتهرت فاطمة بأعمالها الدرامية المعاكسة لما هو تقليدي ومعاصر في الجزائر، فتطورت بصفتها كاتبة، لم تسخر نفسها لكتابة القصة التي كتبتها امتدادا لدراستها الجامعية فقط، لكنها تعتني أيضا بكُتاب المستقبل بتأطيرها للكثير من ورشات الكتابة بلقاءات دولية. يقع الكتاب الذي ترجمت فيه أعمالها في 275 صفحة، وقامت بترجمة هذه الأعمال 4 مبدعات جزائريات، وهذه النصوص هي؛ "الأميرات" وترجمتها د.جميلة مصطفى زقاي من قسم الفنون بجامعة وهران، والأستاذة منال رقيق من قسم اللغة العربية بجامعة عبد الرحمان ميرة ببجاية، ومسرحية "الحلقة الذكورية" ترجمتها الأستاذة نوال طامر من كلية الآداب، اللغات والفنون قسم الفنون الدرامية بجامعة وهران، "الضرائر" ترجمتها جميلة مصطفى زقاي، وقامت الأستاذة حفيظة بلقاسمي من قسم الترجمة بجامعة وهران، بترجمة نص "وتبدو أشجار الخروب من بعيد"، وأخيرا، نص "ريم الغزالة" ترجمتها الأستاذة جازية فرقاني من قسم الترجمة بجامعة وهران.
مسرحية "الأميرات" قد تكون سيرة ذاتية لكل امرأة مغاربية آثرت الهجرة بذاتها إلى الضفة الأخرى، مناشدة منها الاحتفاء بهذه الأنا المتمردة على أوجاعها وأناتها. بطلة هذا النص استحقت هذه المرتبة البورجوازية "الأميرة"، على إثر صمودها وتحديها ومقاومتها للآخر، الذي أضحى ابن جلدتها، وأصبح يراها تارة عميلة للغالب وخادمة له، وتارة هادمة للأعراف وناكرة للدين والعقيدة.
يمنح نص "الحفلة الذكورية" من التيمة المعروضة "الختان"، الذي كان من ضمن التهم التي حوكمت لأجلها المرأة المسلمة التي اقترنت بأجنبي، فلم تهده للإسلام، آثرت تناول هذا الموضوع وكأن هذا النص استمرار للوتيرة السردية الحكائية، التي أصرت الكاتبة على أن تناقش إشكاليتها بجرأة فائقة، إلى تفاصيل العمل المنجز، بلغة جريئة وطرح قوي.
مسرحية "الضرائر" عبارة عن كوميديا، تناولت قصة رجل أراد أن يعيد الزواج مرة ثانية، بسبب عقم زوجته الأولى، فيصبح بعد ذلك أبا لسبع بنات، ويريد أن يعيد الزواج مرة ثالثة لعله يرزق بوريث ذكر، لكن النساء كن بالمرصاد لهذا القدر القاسي الذي جعلهن لا يبتعدن عن الدواب، لم يكن لهن غير العمل الشاق في النسيج ورعاية الزوج والإنجاب، وطاعة الحماة بجسارتها وسيطرتها وتدخلها في كل صغيرة وكبيرة.
عالجت الكاتبة في نصها "ريم الغزالة" موضوع الجنازة في الأعراف الجزائرية، فكانت عينها رقيبة على أدق التفاصيل التي تساهم في إعداد جنازة تكون أهلا لعراقة الأسرة، وفي مقام الفقيدة التي كانت أمًا متفردة الحضور ذات هيبة ووقار. ولم يكن السارد غير صوت الكاتبة وأناها، وهي ترافق أمها إلى مثواها الأخير، لتعود إلى فرنسا بضمير مرتاح بعدما بكت الأم والوطن.
"وتبدو أشجار الخروب من بعيد" يختلف عن باقي النصوص، لأنه تنصل من "أنا" الكاتبة، ولم تكن طرفا بارزا به، مثلما كانت بباقي النصوص، وإن كان هذا التنصل نسبيا، لأن الكاتبة تورطت في إدانة ثلة من القضايا التي ترهق بيئة المرأة الجزائرية، يتعايش فيه التركيب اللغوي بما يحويه من نحويات وبلاغيات مخضبة بجرأة أنثى، تعي ما تقول وتعشق البوح الممنوع. جاء في مقدمة كتابها "وسعيا مني لمواصلة إشعال الفتيل، الذي بادرت الهيئة العربية للمسرح بعام للمرأة في المسرح العربي 2012، ليزداد توهجا تحت ظلال الإنتاج المسرحي النسوي بيراع، يجمع بين ثقافتين وحضارتين تجاذبتا وتعاصرتا وخضعتا لسياسة الغالب والمغلوب الخلدونية، لتستقر في عقر دار الغالب، فتغزوه بلغته، بكل ما تحمل من روافد تكون لحمة المجتمع الجزائري الذي نشأت به الكاتبة وتشبعت بتقاليده وعاداته، فعافت الكبت والضغوط التي تمارس على المرأة الجزائرية، خاصة بالمناطق القروية والمدن الصغيرة".
تعد نصوص فاطمة من أجمل النصوص، ومن أصعبها تجسيدا على الركح، إذ ليس من السهل بالنسبة لأي مخرج التعامل معها، فهي أقرب إلى التراجيديات الإغريقية.
لكن أعمال الراحلة بها عمق وشاعرية، لما تتناوله من موضوعات لا يمكن غض النظر عنها، فهي نصوص تنتصر للمرأة، لتبقى فاطمة غالير كاتبة مسرح التمرد ضد التقاليد البالية.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)