الجزائر

دواءضاع بين الدجل والتجارة



دواءضاع بين الدجل والتجارة
التداوي بالأعشاب طب بديل يعرف إقبالا كبيرا من طرف المواطنين، الذين يبحثون عن الشفاء بين نباتات جافة يقول بائعها أنّها تصنع الخلطة السحرية لذهاب السقم.
تجوّلت «الشعب» في مختلف أسواق العاصمة للتقرب من البائعين المنتشرين في كل مكان، ولن تميّز بينهم لأنهم يشتركون في أساسيات مهمة لإقناع المريض، فاللحية والكلمات الدينية ضرورية لتكون تجارة رابحة!!؟
بين التجارة والسر الرباني
''عمي لخضر''، 56 سنة، وجدناه أمام طاولة بأحد أحياء رويبة، تحمل على ظهرها أنواع كثيرة من الأعشاب، سألناه فقال: ''أمارس مهنة التداوي بالأعشاب منذ ما يقارب الخمس سنوات، كنت من قبل بائعا لدى أحد العطّارين وتعلّمت منه أصول التداوي بالأعشاب، واليوم أنا أعطي المريض الخلطة التي تتلاءم والمرض الذي يعانيه، وأستطيع مداواة مرض السرطان وإن كان مستعصيا (!!؟)، والكثير من المرضى تخلّصوا من مرضهم بعد المواظبة على الخلطات الطبيعية التي أحضّرها بطلب من المريض نفسه. إقبال المواطنين على التداوي بالأعشاب راجع إلى الموروث الشعبي في هذا المجال، فأجدادنا لم يعرفوا الطب الذي يداوي به الأطباء اليوم، بل اعتمدوا في معاينة المرضى وشفائهم على الطب الشعبي، أي الأعشاب وخصائصها الطبية، فكل واحد منها يستعمل في مرض معين وفي حالات خاصة، وأنا لا أعطي المريض وصفات اعتباطية بل أدرس الحالة جيدا عن طريق الأسئلة التي أطرحها عليه التي من خلالها تتبلور عندي فكرة عن المرض الذي يعانيه الشخص''.
''الطاهر''، 67 سنة، يملك محل لبيع الأعشاب الطبية إذا دخله الواحد منّا تضربك رائحة الأعشاب التي تشكّلت في خليط عجيب يوحي الواقف داخله أنه هارب من الزمن الماضي، سألناه عن مهنته في مداواة الناس بالأعشاب فقال: ''أمارس مهنة العطارة منذ نعومة أظافري، فوالدي ورثها عن جدي وأنا ورثتها عنه، والأمر في العائلة سر رباني، فوالد جدي كانت له بركات سمحت له بشفاء الناس الأمر الذي جعل ابنه يرث السر ويورثه لأبنائه وأحفاده، لذلك تجد كل من يتوجه إلى هذا المحل يشفى من مرضه إلاّ الموت فاللّه وحده سبحانه العالم بأوانه وساعته، وماعدا ذلك أستطيع شفاءه بمشيئة اللّه سبحانه، حتى الأمراض المستعصية على الطب بالمواظبة على الخلطات الطبيعية يستطيع المريض أن يشفى بشرط أن يكون ''العشاب'' ملمّا ''بكاره'' وإلاّ فإنّ الوصفات والخلطات لن تؤتي ثمارها المرجوة''.
أمّا إقبال المواطنين على طب الأعشاب فهو كبير لأنّهم يعلمون أنّه إن لم ينفع فهو لا يضر، بمعنى أنّ الطب الطبيعي لا يترك آثار جانبية في جسد المريض، ما يجعله متفوقا على الأدوية التي تسبب للمريض الكثير من الآثار الجانبية المزعجة قد تصل إلى ظهور أمراض أخرى تزيد من تعقيد الحالة، ما يجعل أمر شفائها مستحيلا لان التركيبة الكيميائية للدواء لا تستطيع ذلك''.
''مصطفى''، 70 سنة، يملك محلا يبيع فيه الأعشاب الطبية منذ سنوات طويلة في أحد الأسواق الشعبية بالعاصمة، يقول عن الموضوع: ''أداوي الناس منذ سنوات طويلة ولم يشتكي أي شخص من الوصفات التي أحضّرها، طب الأعشاب عريق في المجتمع الجزائري لأنّه أول ما عرفه الجزائري لعلاج أسقامه وآلامه، ولم يقتصر هذا الأمر على الرجال فقط بل حتى النساء كنّ يعملن في هذا المجال، وجدّتي واحدة منهنّ لأنّها ممّن أعطاهم اللّه سبحانه سرا وبركات يجعل في يدها الشفاء ولن يعطي اللّه سبحانه وتعالى هذا التميز إلاّ شخصا تقيا وورعا يخاف اللّه تعالى في السر والعلن، هذا السر ورثته لي جدتي واختارتني من بين كل أحفادها وتفلت في يدي ثلاث مرات ودعت لي بالبركة، وأن يجعل اللّه تعالى الشفاء في يدي كما قالت، فحتى دعاؤها مجاب.
ولكن رغم ذلك درست مجال التداوي بالأعشاب وذهبت إلى السعودية لتطوير معارفي، والتقيت هناك شيوخ لهم باع كبير في هذا المجال، استفدت كثيرا من معلوماتهم بل شعرت وكأنّني لم أعرف من قبل معنى التداوي بالأعشاب، لذلك أنصح كل مهتم بهذا النوع من الطب البديل ألاّ يترك معلوماته الطبية في صيغتها الخام والأولية أي مجرد موروث شعبي للتداوي بالأعشاب''.
جنون وجهل
''الطيب''، 40 سنة، طبيب مختص في التخذير والإنعاش بأحد المستشفيات الجامعية بالعاصمة، يقول عن التداوي بالأعشاب كطب بديل: ''لا أستطيع معرفة السبب الذي يجعل الناس يتوجهون إلى العطار بدل الذهاب إلى الطبيب المختص أو العام، ولا يمكنني تخيّل الشجاعة التي يملكها الناس وهم يتجرّعون وصفات غير معروفة وغير محسوبة بدون الخوف من الموت أو تأزم الحالة الصحية لهم.
رأيت في المستشفى حالات استعجاليه كان سببها دواء شعبي غير معروف تناوله المريض، وغالبا ما يكون تسمم يصيب المريض ولكن حتى وإن أعلمت المريض بذلك لن يصدق، بل قال أحدهم أن التسمم دليل على أنّ الدواء الشعبي ''بدا يخدم'' أي بدأ مفعوله الدوائي بالظهور، وهو دليل على أنّه ناجع على عكس الوصفات الطبية التي يطول مدة علاجها وفي غالب الأحيان تكون غير ناجعة.
ألى يتساءل المريض كيف لطب شعبي أن يداوي مرضا مزمنا مثل السرطان والطب الحديث عجز عن ذلك حتى الأبحاث الطبية في البلدان المتطورة لم يستطع ذلك، الدراسات الدقيقة عجزت وشيخ لا يعرف حتى الكتابة يستطيع!!؟
ربما الثقافة الشعبية التي تسيطر على تفكيرنا هي السبب، وربما فقدان الثقة بين المريض والطبيب هي السبب، ولكن الأمر الأكيد أن الوضع يحتاج إلى حل سريع حتى لا نقف على جثث الناس في الأجل القريب''.
تلاعب بالدين وبصحة المواطنين
الطب الشعبي أو التداوي بالأعشاب يعرف إقبالا كبيرا من طرف المواطنين من مختلف الشرائح الاجتماعية نخبة، بسطاء، نساء، رجال، الصغار والكبار، الكل يبحث عن الشفاء بعيدا عن عيادة الأطباء والمستشفيات التي تكاد تنفجر بالمشاكل الراقدة بين مكاتبها وأسرتها، ولعل عدم الجدية في عمل الأطباء هو الذي إدى إلى لجوء المواطن إلى البديل وهو الطب الشعبي التداوي بالأعشاب.
الإحصائيات الأخيرة تقول أنّ أكثر من 1926 تاجرا مختصا في بيع الأعشاب الطبية وأكثر من 1393تاجرا يملكون محلات تجارية وأكثر من 533 تاجرا متنقلا عبر الأسواق الشعبية والأرصفة والطرقات.
الأرقام مرشّحة إلى الارتفاع، فهناك من ينشطون في الخفاء هؤلاء الذين يدعون البركات والعلم الإلهي الذي لا يعرفه إلا أصحاب المكانة الخاصة من الإيمان والتقوى!
قليلون هم الأطباء الذين يعتمدون الطب الشعبي أو التداوي بالأعشاب، وهم في نفس الوقت تلقّوا تكوين صحي أو لنقل أطباء زادوا على معارفهم الصحية التخصص في الطب البديل.
الطبيب ''سوي لاماس'' يملك محلا تجاريا في حسيبة بن بوعلى بالعاصمة يبيع فيه الأعشاب الطبية، لم أتمكّن من إجراء حوار معه ولكنه طبيب مدرس في الشبه طبي يطلب من المرضى تقرير طبي حتى يفصل بين الأمراض العضوية التي تتطلب تدخل طبي وبين تلك التي تحتاج إلى وصفات وخلطات عشبية.
الطب البديل الذي يعتمد على الأعشاب في وصفاته تطور بشكل كبير، وأصبح تخصصا منفصلا في الجامعات الأوروبية، ولكن المتخصص فيه لابد له من تكوين طبي في الجامعات كالأطباء تماما، والسبب أنّه طب بديل وليس غير ذلك يحتاج لمعرفة الحالة المرضية إلى معرفة علمية عميقة في الأمراض العضوية، وإلا أصبحت فرصة كل من هب ودب، يقول أنّه طبيب مختص في التداوي بالأعشاب.
فرغم أنّ بيع الأعشاب هي تجارة لا تحتاج إلى ترخيص من وزارة التجارة، إلاّ أنّ تحويل المحلات التجارية إلى عيادات طبية مختصة في مداواة الناس باسم الطب الشعبي ممنوع قانونا.
الدراسة ضرورة لابد منها
سكنجبير، القرنفل، شوكة الحمار، الحبق، زريعة البسباس، لرنج، الفيجل، حدج، الجمار، الحلحال، الغرطال، اليازير، الخزامى، الفقوس، السدر، زريعة القطن، حبة الحلاوة، العرعار، حب الرشاد، الحلتيت وأسماء أخرى لنباتات طبية لا يخلو منها محل أو طاولة ''العشاب''.
كل هذه الأسماء وأخرى تصنع السر الذي يتكلم عنه الشيوخ الذين يعتمدون عليها في مداواة الناس من الأمراض المستعصية حتى على الطب المعاصر، تجارة استعادت بريقها وتغزوا الأسواق بقوة بدون رقيب ولا تنظيم يتحكم في هذه الظاهرة.
عمادة الأطباء صرحت في أكثر من مرة لأكثر من جريدة أن التداوي بالأعشاب مجرد خدعة لجني المال، خلط فيها الدين بالطب ولا يمكن تجاوز الطب الحديث بأي حال من الأحوال، فلا بد لمرن يداوي المرضى أن يتخرج من الجامعة ليستطيع ذلك، وبدون ذلك لن يتمكن من ذلك وان كانت الأعشاب التي يستعملها ذات خواص طبية.
الفوضى التي تعرفها هذه التجارة يرجعها الأطباء المختصين إلى سهولة الحصول على ترخيص من وزارة التجارة، وفي غياب دور فعال لوزارة الصحة يبقى المواطن ضحية أكاذيب ''العشابين'' الذين يسوقونها من أجل ربح المال.
والحقيقة أنّ الوضع الراهن يستدعي تدخل سريع لكف أذى تجارة تتلاعب بصحة المواطنين وبمالهم، ولن ننفي أن البعض القليل من هؤلاء لهم قاعدة معرفية وخبرة كبيرة في التعامل مع الأعشاب ولكن لا بد لهم من تكوين طبي علمي يجب أن تأخذه وزارة الصحة على عاتقها على الأقل لضمان صحة المواطن وعدو الاتجار بها.
ربما لن يستسيغ البعض ما قلناه لأنّه لا يرى ضررا في التداوي بالأعشاب، ولكن الضرر الذي نتكلم عنه هو وجود أناس ليست لهم أية علاقة بالطب البديل ويمارسونه بكل سهولة بالرغم من أنه يمس صحة المواطن الذي قد يفقد حياته بسبب ''عشبة'' سامة أسيء استعمالها، أما القول بمداواة الأمراض السرطانية فهذا أمر فيه نظر لأنّ زمن المعجزات قد ولّى وانقضت أيامه.
قنوات زادت الطين بلة
المتصفح للقنوات الفضائية وحتى المواقع الالكترونية يجد ترويج كبير للتداوي بالأعشاب، بل تجد حتى الخلطات التي تخلص المريض من أصغر مرض كالرشح إلى أمراض سرطانية لم يجد لها العلم دواء فعال.
مثل هذه المواقع والفضائيات تعمل على تضليل المريض عن الأصل وهو الذهاب إلى الطبيب المختص لدراسة الحالة المرضية، ومعرفتها معرفة دقيقة تكون بالمعاينة المباشرة لجسد المريض، واستغرب كثيرا من الذين يكلّمون المختص في التداوي بالأعشاب عبر الهاتف ليصفوا له مرضهم وهو من جهته يصف لهم الدواء (الأعشاب) الذي يجب على المريض تناوله بدون معاينة مباشرة لمكان الألم.
لا ندري إن كان هروبا من الواقع أو أنها كذبة صدقها قائلها قبل سامعها، ولكن الواقع يقول أنّ المجتمع بمختلف شرائحه يقبل على هذا النوع من الدواء، ولن أتفاجأ إن سمعت أنّ أحد ''العشابين'' قد شفى مريضا بفقدان المناعة فما دام يستطيع شفاء السرطان فهو يستطيع ذلك!!؟
التفكير الخرافي الذي يسيطر على تفكيرنا جعل المواطن بعد لجوئه إلى المشعوذين والعرافين، يصدق نوع جديد من الكذب اسمه ''العشاب''.
أنا لا أنفي وجود طب الأعشاب منذ الحضارات القديمة بداية مع الحضارة الصينية المعروفة بمثل هذا الطب البديل ووصولا إلى الحضارة المصرية القديمة إلى التداوي بالأعشاب في الحضارة الإسلامية، ولكن يجب أن نلاحظ أنها كانت طب له أهل اختصاصه وليس من هبّ ودبّ يصبح يداوي الناس من أمراضهم.
وربما تخصيص أكبر الجامعات في أوروبا وأمريكا جانبا للطب البديل والتداوي بالأعشاب يعني وجود فعالية طبية في التداوي بهذه الأعشاب، ولكن لن يكون الباحث كواحد لم يجد ما يفعله فجمع أعشاب طبيعية وأصبح يبيعها للناس كدواء بديل للوصفات الطبية.




سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)