الجزائر

حوارات الجزائر


تأتي ردود الأفعال من كل حدب وصوب حول تطورات ما يجري في ''الشرق الأوسط'' أو ما ينتج عن ''الربيع العربي''، أو ما يستنتج من تحركات أوروبية وأمريكية ودولية إزاء ''أحداث'' ليبيا، أو التحركات التركية.. بل هناك من تساءل عن مصير حركة دول ''القارة السمراء'' صعودا وهبوطا مع حركة ''الاتحاد الإفريقي'' والقلقة في أديس أبابا أو فى مجلس الأمن بنيويورك. ثمة ''قوى'' تسقط من الشبكة مثل ''جامعة الدول العربية''.. وأخرى يخفت صوتها مثل السعودية، وحتى إيران، لكن بعضها يبقى موضع التساؤل الدائم عن دورها أو حجمها فى الحدث مثل مصر.. ثم يظل هناك من يدهش لعدم الحضور المناسب أو الحضور القلق، لأن غيابه أو قلقه غير مبرر، وهو صاحب هذا الثقل والتاريخ.. مثل الجزائر. لذا رحبت بدعوة للجزائر فى أوائل أكتوبر 2011 مشاركا فى ندوة دولية.. مستمتعا بالحوارات، محاولا -فقط- أن أفهم..  كانت الندوة عن الغليان في العالم العربي - انتفاضات أم ثورات ندوة علمية، في رحاب عمل ثقافي كبير هو معرض الجزائر الدولي للكتاب في دورته السادسة عشر. والرعاية الأكاديمية من نخبة الجزائر التى لها باع فى الجدل العربي والأوروبي على السواء، والرعاية الثقافية بكرم حاتمي مثير، وحيادية مثيرة أيضا. والمشاركون في الندوة شخصيات تنافست باستقلاليتها فى الحوارات متعددة الجوانب، وهي أهل لذلك.. شخصيات جاءت من تونس ومصر ولبنان، ورسائل من اليمن وليبيا، وحضور من معارضين فى سوريا، إلى جانب مفكرين ذوي اعتبار من أوروبا والولايات المتحدة.
ولولا تقاليد أدبية ومعنوية لذكرت كل هذه الأسماء التى جاوزت العشرين.. ومثلهم كانوا ضيوفا لحوار آخر في إطار ندوات معرض الكتاب.
حضور الجزائر الإقليمي لا يتناسب مع حجمها
لماذا كتبت المقدمة بهذا الشكل؟ لأقول ببساطة بأننا أمام شعب ودولة ذات قيمة ثقافية عالية، وقدرات متميزة، تقبع في منطقة حيوية من الجغرافيا والتاريخ، بحارا وصحاري وثورة، بل ومشروعات حضارية متنوعة التراث واللغات والقوي البشرية. ومفاجآت بالأرقام؛ من الدولة ذات المساحة الكبيرة إلى 35 مليون من البشر، إلى تسديد جميع الديون للعالم منذ خمس سنوات (والديون عند آخرين كارثة ماحقة)، إلى معدل نمو يعادل الـ5 ,4 % بل ويزيد، إلى أنها ضمن الدول العشرة الأكبر في تصدير الغاز والبترول.. ويتحرك على مساحتها أربعون حزبا سياسيا بين تاريخيين تقليديين وعلمانيين وديمقراطيين وإسلاميين، وأنا أعني هنا التصنيف بالفعل لقوة متفاعلة فى هذه الساحة الغنية..
وهنا يبرز السؤال المثير عن مدى توازن الحضور الجزائري إقليميا وعالميا مع هذا الحجم؟ وهل يعقل أن يبقى فقط السؤال عما إذا كانت الجزائر ستشهد أحداثا مماثلة لما حدث فى تونس أو مصر، أم إنها نموذج لتطور آخر ؟
بدت مثل هذه التساؤلات عند معظمنا أسئلة مبسطة، لعدم صلتها المباشرة بحقيقة التفاعلات المستمرة فى الجزائر.. تفاعلات ناتجة من تبلور قوى سياسية تحسب على تنظيمات معارضة ومعروفة، تنوعت وزاد تفاعلها عقب انفجار 1988 وانشطار المجتمع ذاك الوقت بهذه الصورة البائسة، بين قديم وحداثي، وما ورثناه من تعريفات عن العنف والإرهاب مما بات يتوجب مراجعته، لأن الفضاء اتسع اليوم ليشكل أرضية لمشروعات إمبريالية أكثـر بؤسا فى المنطقة كلها!
التغيير ضروري وممكن
طرحت حالة الجزائر مبكرا أبعادا سياسية مثيرة، جعلتنا ننسى إزاءها الأبعاد المجتمعية الأخطر، كما هو الشأن بالنسبة لأبعاد اقتسام الثـروة والسلطة، كتعبيرات حديثة تعرفها الساحة الإفريقية جيدا، وليقرأ من يريد أدبيات أحداث نيجيريا والسودان على السواء.
في هذا الإطار الذي شغلنا عنه الأوروبيون والمتأمركون، ننسى معنى أن تعاني دولة غنية مثل الجزائر حالات البطالة، وأزمات السكن والغذاء، وارتفاع الأسعار، وهي على هذا القدر من مصادر الرخاء، وثـراء الفكر الاجتماعي، وحركات سياسية كفيلة هي بالإجابة، وبأن تثبت حضورها للبعيدين عنها؛ حتى لا يدخل مثلي فى تحليلات أو تفسيرات غير مناسبة بالتأكيد بينما سؤاله المؤكد هو حول غيابها الإقليمي أو الدولي فى هذه اللحظات الحرجة.
وقد كان الأخ الأخضر الإبراهيمي، الراعي الرسمي للندوة، بثقله الأدبي والتاريخي فى حياة الجزائر والمشرق العربي، واضحا في تقديمه وخاتمته، وهو يعلن بُعده عن السياسة لعقدين من الزمن، لكنه يرى بأن الأمور فى الجزائر أو المنطقة تحتاج إلى تفكير معمق وجديد، يدفع إلى أن التغيير ضروري وممكن، بل إن التغيير السلمي تحديدا بات ملحا . وفهمنا بين السطور تساؤلا يعبر عنا جميعا.. لماذا كل هذا التأخير في إدراك ما هو ممكن؟
والجماهير الجزائرية طرحت أسئلتها الاجتماعية بوسائل عديدة طيلة السنوات الأخيرة، تحركات الاحتجاج التي بلغت الآلاف حسب بعض المصادر، وتنسيقيات التغيير والديمقراطية .. و شعارات التغيير المنظم ، وتعدد حالات إحراق الشباب لأنفسهم سابقين بوعزيزي وخالد سعيد!.. كلها أحداث أدت إلى اتخاذ العديد من الإجراءات الدستورية ، وإلى إلغاء بعض الإجراءات الحاجبة للتفاعلات الحقيقية، السياسية والمجتمعية.
سؤال الحضور الجزائري
والحق أن ما ظل يلح علي كمراقب خارجي وزائر، ليس هو سؤال الداخل الذى يندرج تحت عنوان غليان العالم العربى ، ولكنه بالطبع سؤال الحضور الجزائري فى المنطقة العربية والأفريقية.
كان المثير بالطبع هو الموقف من الحالة الليبية ، ذلك أنني شعرت بأن حالة تونس ومصر هي موضع جدل شبه موضوعي فى المجتمع الجزائري الثقافي والسياسي، تقديرا للتطورات الخاصة فى البلدين، أما الحالة الليبية ، فتثير أسئلة أبعد، ليس أقلها الحضور الجزائري فى أجواء الحدث! فالجزائر لا تقبل بالطبع هذا الدور الفرنسي والأوروبي عموما ممثلا للاستعمار القديم المتجدد، حتى وإن كان ذلك تحت مظلة مساعدة شعب شقيق ومجاور يمكنه التحرك بإمكانيات ذاتية لو أنها كانت ثورة حقيقية، أو بتعاون وتنسيق مع الشعوب الشقيقة.
هنا جاءت مداخلة الأخضر الإبراهيمي قوية أيضا وهو يتساءل معنا: لماذا لم تقم مصر والجزائر معا إلى جانب تونس بدور أكثـر فاعلية فى ليبيا يغنينا عن سؤال ذلك المغامر الأوروبي الذي قفز سريعا على الحدث؟
لكن حقوقيا مثل فواز طرابلسى كان أكثـر حيرة وهو يناقش إنقاذ الشعوب من القهر الكاسح سابقا على كل تخطيط ، بل وراح كل من وليام كوانت وهيلينا كوبان يشرحان معضلة الدمقرطة على النسق الغربي، و الثورة على نسق الربيع العربي، لنبحث من خلال المصطلحين عن حل هذا التطور الدامي فى ليبيا. ورحت من جانبي أطرح أبعاد الموقف الفكري الإفريقي المتحفظ على العدوان الاستعماري على ليبيا رغم توق الشعوب الإفريقية للثورة ومعرفتها بتهافت نظام القذافى نفسه، وطوال الوقت كانت الزوايا المضيئة فى ثورات مصر وتونس كما أغنتها تدخلات شكر و رباب و بوعزيزي والصديقي مما جعل المساهمات الجزائرية بدورها تجيب على الكثير عن الواقع الجزائري المتطور.  أما حضور رضوان زيادة، أحد ممثلي المعارضة فى سوريا كباحث فكان إضافة لارتباكات الحالة الليبية فى الجزائر.
ليبيا و أفغانستان
كان الملفت أيضا هذا النشاط الأمريكى تجاه الجزائر في هذه الفترة بينما تبدو هي متمردة بهذا الشكل على التدخل الأمريكي والغربي عموما على حدود الجزائر فى ليبيا. لقد سبقت الندوة بقليل اجتماعات القيادة الأمريكية لأفريقيا (الأفريكوم) فى الجزائر برئاسة قائدها العام كارتر هام وبحضور مكثف لممثلين عن الدول الأفريقية الصحراوية المجاورة، فضلا عن تمثيل 14 دولة أخرى من القارات المختلفة تحت شعار المشاركة والأمن والتنمية ، وهو شعار فضفاض لقيادة عسكرية تبحث عن مقر لها في القارة خاصة بعد أحداث ليبيا!
لكن الأخطر في نظري كان صلة ذلك بمخاطر ما يجري فى ليبيا نفسها، واحتمالات تحول الوضع في هذا القطر لأبعد مما وصلت إليه أفغانستان، فثمة أسلحة متقدمة كانت لدى القذافى وتتناثـر الآن على أوسع نطاق فى المنطقة العربية والإفريقية، وهو ما لم يحدث فى الحالة الأفغانية نفسها بهذا الشكل، وثمة منطقة واسعة من الصحراء الغربية تتحرك منها قوى بهذه الأسلحة غير معروفة المصدر، فهل ستنقل الولايات المتحدة ثقلها إلى هذه المنطقة.. وهي تنسحب من وسط آسيا؟ أم أنها ستحمل نظما كالجزائر والمغرب ومالي ونيجيريا مسؤوليات كانت في غنى عنها ما لم تضاعف من تعاونها مع دوائر الأطلنطي بشكل جديد؟ لكن هل يحقق ذلك الاستقرار أم القلق؟
في هذه الأجواء يلح السؤال عن مدى إلحاح الحضور الجزائري كقوة إقليمية، لكن وفق منطلقات أخرى! فالجزائر لها سبق الحضور فى دوائر العالمثالثية بل ومشروع تضامن القارات الثلاث. ولا يجوز الآن غياب الجزائر ومصر تحديدا عن هذه الدوائر فى ظروف تكاد تلح لتشكيل جديد فى العالم كما تطرحه صراعات مجلس الأمن الأخيرة حول ليبيا وسوريا تحديدا، وأظن أن معالجة الموقف فى ليبيا في ضوء المسؤوليات العربية الاستقلالية ممكن أن يبعث برسائل جديدة لمركز النظام العالمي.
ولن أنس هنا الأهمية البالغة لمداخلة أحد الأساتذة الجزائريين من ذوي الخبرة العالمية، فى الثـروات الإستراتيجية، والأدوار العالمية وهو الدكتور مرتضى زابوري الذي ارتحل بنا من طريق الحرير إلى وسائل النقل والاتصال المتجددة، إلى وضعية البترول في عصور متغيرة لينبه بإلحاح إلى مواقع النجوم الجديدة في النظام العالمي. وهو ما جعلني أرحل معه ومع سمير أمين وجوندار فرانك وغيرهم إلى مدارات مختلفة لمراكز العولمة.

* مؤسس مركز البحوث العربية والإفريقية ومستشار الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر للشؤون الإفريقية
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)