الجزائر

جمع بين الكتابة والإجرام !


جمع بين الكتابة والإجرام !
في إحدى المصحات الباريسية رحل قبل أيام الكاتب الجزائري عبد الحفيظ بن عثمان عن 54 عاماً. بن عثمان كاتب مجهول بالمطلق لدى القراء العرب ومعروف نسبياً في فرنسا بسبب شخصيته الغريبة التي جمعت بين الكتابة والإجرام.ولد بن عثمان عام 1963 في باريس من أبوين جزائريين هاجرا إلى فرنسا في بداية الخمسينيات، وقضى معظم طفولته في أحياء الدائرة السادسة. دخل السجن بتهمة السرقة لأول مرة في عمر لا يتجاوز 16 عاماً، مدشناً بذلك علاقة حميمية بالسجون ستلازمه طيلة حياته المتشظية.اشتغل في عدة مهن هامشية بموازاة ولوجه عوالم الليل والإجرام الباريسية، إلى أن زُجّ به في السجن لمدة سبع سنوات نافذة بعد القبض عليه متلبساً بتهمة السطو على مصرف في واضحة النهار عام 1979. في تلك الفترة، تنقل بين عدد من السجون الفرنسية واكتشف الأدب عندما انضم بالصدفة إلى ورشة كتابة تشرف عليها إدارة السجون، وتعلّم بفضلها أبجديات الكتابة التي تألق فيها بسرعة مثيرة.عام 1990 عاد من جديد خلف القضبان بسبب مشاركته في عملية سطو مسلحة بعد أن حُكم عليه بتسع سنوات نافذة. هذه المرة سيعكف على القراءة ويبدأ بكتابة أولى قصصه القصيرة التي سينشرها لاحقاً في مجموعته "المجانين" الصادرة عن دار "ريفاج"، أكبر وأهم دور النشر المتخصصة في "الرواية البوليسية السوداء"، بتقديم خاص من الكاتب البريطاني روبن كوك.لقيت قصص بن عثمان في هذه المجموعة، وفي مجموعته الأخرى الصادرة عام 2006 بعنوان "أعمدة التعذيب"، صدى إيجابياً فورياً، خصوصاً لدى قراء "الرواية السوداء"، بسبب واقعيتها الآسرة وبفضل نبرة الصدق القوية التي تكتنفها وأسلوبها الملتهب والغاضب ذي الحمولة السياسية العنيفة. وعن أسرار ولعه بكتابة القصة من دون غيرها من الأجناس الأدبية، كان يجيب دائماً: "بسبب حجمها القصير الذي يسهل عملية تهريبها من السجن".لكن بتشجيع من ناشره وأصدقائه، دخل معترك الكتابة الروائية وكتب روايته الأولى: "زبال في منصة الإعدام"، التي استوحاها من سيرته الذاتية، وصدرت عام 2003، وهي الرواية التي استقينا منها معلومات ثمينة حول مساره الفريد والتائه بين دهاليز المحاكم والسجون. ورغم أن روايات بن عثمان مصنفة في إطار "الأدب البوليسي"، فهي لا تسرد قصص الجريمة بالمعنى المتفق عليه في الرواية البوليسية، ولا تبني حبكة تبدأ أو تنتهي بفك لغز جريمة، بقدر ما هي وصف للعوالم السوداء المنغلقة التي تكبّل الكائن وتفصله عن المجتمع.توالت بعد ذلك روايات أخرى، من أجملها "اعتقال احتياطي" و"المشي ليلاً بلا قمر"، وهي رواية قيد التحوّل إلى فيلم سينمائي من طرف المخرج عبد اللطيف كشيش، الذي اشترى الحقوق السينمائية للعديد من قصص بن عثمان. كما كتب الراحل مسرحيتين ومجموعة شعرية يتيمة أصدرها عام 2010، وكتب بالاشتراك سيناريو فيلمي "على الخشبة" للمخرجة المغربية ليلى كيلاني، و"حمى" للمخرج نبيل عيوش.ورغم أن حظوظ بن عثمان في طي صفحة الإجرام كانت قوية جداً بفضل احترافه الكتابة ونجاحه فيها واستقراره العائلي بعد زواجه، فقد كان من المستحيل عليه أن يخرج من قدره الرهيب ومن جلد اللص الغاضب الذي غلّف شخصيته إلى الأبد. هكذا عاد بن عثمان إلى خطيئته الأصلية وقام بعمليات سطو مسلحة عام 2003 على أربعة مصارف في ضواحي باريس.في النهاية، قضى بن عثمان نصف حياته تقريباً في السجن وبدون أوراق هوية قانونية لأنه كان يكره الإجراءات الإدارية ولم يتقدم أبداً بطلب الجنسية الفرنسية. كان نموذجاً للمجرم ذي السوابق الذي ما إن يخرج من السجن حتى يعود إليه بدافع غريزي في أقرب فرصة. لكنه في العمق كان "لصاً ظريفاً" له ضوابط أخلاقية وخطوطاً حمراء لا يتجاوزها أبداً. فالرجل كان متخصصاً في السطو على المصارف و"مال الأغنياء"، ولم يعتد أبداً على أحد في هجماته التي كان يستخدم خلالها أسلحة مزيفة ويحرص على أن لا تُسفك فيها قطرة دم.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)