الجزائر

تبقى مصادرها أسرار غير قابلة للنشر التحف النادرة .. بين ثقافة الاقتناء وثقافة المتاجرة


تبقى مصادرها أسرار غير قابلة للنشر                التحف النادرة .. بين ثقافة الاقتناء وثقافة المتاجرة
  يميل البعض الى امتلاك أندر التحف التقليدية رغبة منهم في التميز أو حبا في التحفة ذاتها، لكن المتاجرة بها تبقى أولى أسباب الاهتمام بهذه التحف المفقودة. وكما تعتبر مصادر الحصول على هذه التحف مجهولة فكذلك زبائنها، وأمام عمليات التنقيب يبقى التنازل عنها من طرف أشخاص يجهلون قيمتها أولى هذه المصادر، إلا أن الرابح الأكبر من الرحلة الطويلة لهذه التحف هو من يمتلكها حتى وإن كان تاجرها يجني الكثير من وراء ذلك لأن العبرة من حيازتها تكمن في القيمة الرمزية للتحفة. ولمعرفة طبيعة تعامل الجزائريين من تجار ومواطنين مع مختلف التحف النادرة سواء تعلق الأمر بالمجوهرات أو غيرها من مستلزمات المنازل ارتأت “الفجر” الاحتكاك بتجار التحف واستقصاء آراء البعض ممن يهوى اقتنائها.   واد كنيس قبلة عشاق التحف من مختلف أصقاع العالم كانت الوجهة الأولى إلى واد كنيس برويسو وبالتحديد محل “علي بابا” الذي استلهم تسميته من “قصة علي بابا واللصوص الأربعون” يشبه شكله حديقة مفتوحة على الهواء الطلق نتيجة جذوع وأغصان الأشجار التي تركن كل زاوية منه وكذا بناؤه ذو الهندسة التقليدية، مكونة مكانا عتيقا يحوي بداخله الكثير من الكنوز التراثية، وقفنا عند عتبة الباب أين تراءى لنا كم هائل من الأثاث القديم المترامي الأطراف داخل فضاء المحل، ولجنا إلى الداخل وطفنا ببعض جنباته فلمحنا أشياء تقليدية متنوعة الأشكال والأحجام كانت بمثابة مفاجأة لنا؛ حيث يعود تاريخها إلى زمن بعيد من الآن، اقتربنا من صاحب المتجر عليوي عاشور الذي يمتهن هذه الحرفة التي توارثها من أبيه منذ 10 سنوات تقريبا، وسألناه عن سر هذه التحف الفنية التي يتاجر بها بغية إيجاد إجابة شافية تمكّننا من معرفة مصدرها وزبائنها، فأجاب قائلا “هي أثاث قديم يعبر عن فترات مختلفة من تاريخ القرن الماضي لعديد الدول العربية والأجنبية على غرار مصر، تركيا، ماليزيا والجزائر، تجارتها مربحة وتدر علينا بالمال الوفير”، ومن خلال ما لمسناه من رؤيتنا لتلك المعروضات تبيّن لنا أنها تتنوع بين المزهريات الفضية والنحاسية المرصعة بالنحت اليدوي، وكذا أدوات مطبخ ومستلزمات حمام، أرائك خشبية وأخرى مصنوعة من عظام الجمال، خزانات مصرية تمتد إلى أكثر من سبعين سنة خلت يقدر ثمنها بـ 15 مليون سنتيم. وقال صاحب المتجر بأن أغلبية هذه يقتنيها زبائن كثيرون من الأجانب والعرب والجزائريون، مشيرا إلى أن آخر زبون اشترى “صندوق” أو ما يسمى بالفرنسية “كوفر” كان من تونس بـ ستة ملايين سنتيم، حيث عبّر في ذات الصدد بأن التحف الفنية لا تقاس بسعر محدد فهي تختلف من واحدة لأخرى، والطلب عليها طول أيام السنة نظرا للقيمة والأهمية التراثية التي تمثلها بالنسبة لكل إنسان عاشق لهذه التحف. دعوة إلى وضع بطاقة تقنية لهذه التحف واصلنا جولتنا بحثا عن المهتمين بجمع أندر التحف وتوجهنا إلى محل الأندلسية بتيليملي الذي يعود تواجده إلى حوالي 50 سنة، لكن اختصاص هذا الأخير يختلف عن سابقه لأنه يهتم بكل الأواني المصنوعة من النحاس والتي يعود تاريخها إلى مختلف الحقب الزمنية. المحل على صغر حجمه يحوي كمًّا هائلا من التحف يعود البعض منها إلى ما قبل العهد العثماني، حيث يقوم صاحبه حاج حمو محمد بشراء مقتنيات المحل من جهات مختلفة تتمثل غالبيتها في أشخاص يملون من استعمال النحاس في منازلهم - وهم أفراد كما وصفهم ابن صاحب المحل لا يعرفون قيمة ما يملكونه - فيستبدلونه بأغراض حديثة أو كما قال “تتماشى والموضة”.  الاهتمام الملح باقتناء مثل هذه الأغراض العتيقة ضرورة ملحة لدى عمي محمد، لدرجة أن أصبح البحث عن التحف أشبه بالتنقيب عنها، لذلك يعود القائم على المحل للحديث عن علاقته المميزة بالتحف ليقول إن ارتباطه الوثيق بهذه التحف بدأ هواية ثم تحول إلى مهنة، حيث شرع في الاحتكاك بأندر التحف مذ كان طفلا، كيف لا وهو الذي اعتاد على رؤية والده يتعامل مع قطع النحاس بكل تفان ويتفنـن في عرضها بعد تلميعها بالليمون. وعن بعض ما يحتفظ به عمي محمد داخل محله عينة أطباق نحاسية تعود إلى الدولة العثمانية على غرار الثريات، الدلوة، الدليوة (دلو صغير يستعمل في الحمام)، وكذا البابور المستعمل في تحضير الشاي وهو مشترك بين الجزائر تونس المغرب روسيا وإيران أين يعرف بساماور إلى جانب العديد من الأشياء النادرة التي ترجع إلى زمن الدولة العثمانية، منها قدر خاص بتحضير الطعام يعود - كما قال صاحب المحل - إلى فترة حكم حسين باشا داي الجزائر، وصحن تقديم العشاء أو كما يعرف بالعامية “طبسي عشاوات” يعود إلى العثمان خوجة حسب ما صرح به محدثنا، أو كما كان يعرف “الدفتر دار” وهو مسؤول المال وقتها، إضافة إلى عدد من الأطباق من الحجم الكبير يعود تاريخها إلى حوالي 400 سنة كانت تستعمل لشوي اللحم، إلى جانب ثلاث أباريق ترجع إلى نفس الحقبة واحد منها يعود إلى عهد جلال الدين الرومي المدفون في بإيران. أما فيما يخص مصادر الحصول على هذه التحف قال ابن عمي محمد إنه يتم شراء التحف - حسب ذات المتحدث - من أشخاص مهتمين بشراء وإعادة بيع التحف، أو من أفراد كانوا يحتفظون بها في منازلهم وملوا من استعمالها واستبدلوها بتحف حديثة وأغلبية هؤلاء من الأثرياء. أما من يهتم بشراء التحف فأغلبيتهم من الأثرياء الذين يحبذون امتلاك تحف نادرة في بيوتهم أو يعشقون صنع ديكور مميز داخل منازلهم. في خضم الحديث عن جمع التحف، أشار محدثنا إلى الخطر الذي يحدق بهذه الأغراض النادرة، مؤكدا أنها في طريق الزوال والدليل العديد من المحلات المختصة في جمع وبيع التحف التي أغلقت أبوابها وما تبقى منها يعد على الأصابع. وأضاف صاحب المحل، الذي يفضل أن يصنف نفسه في دائرة الحرفيين على أن يعد من جامعي التحف، أن الاهتمام بالتحف لا يتواجد سوى في ثلاث ولايات من الوطن هي الجزائر العاصمة، وهران وقسنطينة.  وعن الأهمية من جمع هذه التحف قال صاحب الأندلسية إن ذلك يكمن في الورقة التقنية للتحفة، لأن الأجمل في الأمر كله هو تتبع تاريخ التحفة وتقديمها للجمهور بكل تفاصيلها، خاصة ما تعلق بالمادة المصنوعة منها والحقبة التاريخية التي استعملت إبانها، وتقديمها كتراث مشترك بين العديد من الدول وغيرها من التفاصيل التي يجب تتبعها وتدوينها حتى لا تندثر مع الزمن، لأن الغرض من ذلك هو الحفاظ على التراث وإبراز علاقتها الوطيدة بالحضارة التي تنتمي إليها. وجل ما يبحث عنه أصحاب التحف هو تنظيم هذه المهنة وإدراجها ضمن الحرف التقليدية وكذا تخصيص مكان لعرض هذه التحف النادرة.  تجارة التحف مجازفة حقيقية  نوع آخر من التحف يتوجه إليها المهتمون بمثل هذه المقتنيات النادرة وهي التحف الفضية، خاصة ما تعلق منها بالمجوهرات المصنوعة من الفضة، وهو ما يهتم به سعيد صاحب محل لجمع المجوهرات الفضية العتيقة بقلب العاصمة، الذي حدثنا عن الطرق العديدة التي يتحصل من خلالها على هذه الأشياء العتيقة الموجهة بالدرجة الأولى إلى العرض قبل الاستعمال اليومي، حيث يبقى شراؤها عند أشخاص مختصين في ذلك هو السبيل الوحيد للحصول عليها. غير أن المحل لا يعرض كل التحف الفضية أمام الجمهور بل يحتفظ بقطع نادرة لا تعرض إلا أمام بعض الزبائن النادرين - على حد وصف سعيد - وهم أشخاص يبحثون عن قطع معينة ويوصونه بالبحث عنها لغرض أو لآخر. وأمام فضولنا الجامح للاطلاع على بعض هذه القطع، لم يجد صاحب المحل بدا من عرض البعض منها أمام أعيينا لكن في زاوية خاصة من المحل. ومن بين هذه التحف “الرديف” وهو نوع من الحلي تلبسه المرأة في قدميها. هي تحفة من العيار الثقيل لم يستطع سعيد معرفة الحقبة التي تعود إليها هذه التحفة، لكنه قال إنه اشتراها من شخص يسكن منطقة أولاد نايل. استفسرنا عن مجازفته بشراء تحف لا يعرف مصدرها، فأجاب أنه يلبي طلب زبائن من نوع خاص يبحثون عن تحفة أو أخرى وقال “التجارة تتطلب المغامرة”. قمنا باستغلال فرصة حديثه عن هذه العينة من الزبائن لنطرح عليه سؤالنا عمّن يشتري هذه التحف، فرفض الإجابة قائلا إن هذا سر المهنة ورفض الإفصاح عن المصدر الذي يحصل منه على مثل هذه التحف وعن الزبائن الذين يقتنون هذه الأشياء النادرة التي لا تقدّر بثمن، حسب رأي محدثنا، لكنها في الحقيقة تقدّر بأثمان خيالية. وللتحف اليهودية مكان بيننا.. غيّرنا الوجهة إلى محل ثان في نفس الشارع مختص في بيع وشراء الأثاث القديم. المحل على صغره يضم تحفا تدعو للدهشة والاستغراب، فمنها الصينيات من مختلف الماركات والصناعات مصادرها عديدة كالقادمة من إفريقيا، إيران، سوريا وحضارة الأندلس بإسبانيا تم الحصول عليها بطرق شتى عن طريق التجارة البحرية ومنها ما إلتٌقطَ من قعر البحر، تحمل أغلبيتها جملة من الدلالات والرموز فبعضها يعبر عن تاريخ سكان الأمازيغ بالمغرب العربي، والحقبة العثمانية في زمن الأتراك بالجزائر والبعض الآخر يسافر بك إلى حضارة القرون الماضية والأدغال الإفريقية. غير أن ما استوقفنا هو “صينية” ذات صنع يهودي تحمل علامة “نجمة داوود” وتحيط بها نجمات صغيرة قدرت بـ32 نجمة، وكذا أقدم تحفة عبارة عن مزهرية فرنسية الصنع ولوحة نحاسية للدولة التركية يعود تاريخهما إلى سنة 1816، إلى جانب غسالة تاريخها قرنين من الزمن، بالإضافة إلى أشياء أخرى أكل الدهر عليها وشرب كالكير وراديو تقليدي، العملات وغيرها. ويعرف المحل حسب صاحبه منصور صوات الذي يشتغل بائعا ونحّاتا في آن واحد أن تجارة التحف الفنية تزدهر في فصل الصيف، حيث يكون الإقبال عليها واسعا من طرف الزبائن وبصفة خاصة الأجانب منهم، كالفرنسيين، الإسبان، والألمان وكذا بعض عشاقها من الوطن العربي. وعلى حد تعبيره، فإن هوسهم وتعلقهم الشديد بالتحف يجعلهم ينفقون أموالا باهظة. وللزبائن وجهات نظر مختلفة اقتربنا من بعض الزبائن وهم بصدد البحث عن أغراض معينة تلبي رغباتهم داخل محلات التحف، حيث عبّر معظمهم عن حب امتلاك هذه التحف النادرة، وهو ما أكده الزبون “ك.م” العامل بالخطوط الجوية الجزائرية الذي عبّر عن عشقه وقصة الحب التي تجمعه بالتحف، لدرجة أنه جاء يبحث عن شراء ساعة حائط قديمة يضيفها إلى جملة من المكتنزات العتيقة التي يحوزها في بيته، اشتراها من مصر وأماكن مختلفة من العالم خلال سفرياته إليها، وبالتالي فالثمن ليس مهما بالنسبة إليه، بل المهم هو شراء ما يبعث في نفسه الراحة والهدوء، وأضاف “أستعملها كديكور عتيق للمنزل يزيد في رونقه وجماله”.  وفي نفس المكان، صادفنا “قصير أحسن” ابن مدينة روسيكادا، فنان تشكيلي مختص في النقش على جذوع الأشجار، عبّر لنا هو الآخر عن رأيه في الموضوع فشرح لنا سبب تواجده هنا، حيث أوضح بأنه يتعامل مع تجار التحف الفنية بهدف بيعهم أعماله من النحت، لأنها تلقى إقبالا واسعا من الجمهور الجزائري والعربي بحكم تجربته في لبنان من خلال المعارض التي نظمها هناك قصد سد رمق العيش. وترى “غ.ب” ربّة بيت من ارتيادها لهذه المحلات أن السعر يناسبها نظير حالتها المادية المتوسطة، بخلاف المحلات العصرية التي تبيع الأثاث بثمن مرتفع جدا، وحسبها، فإن السعر معقول إلى جانب الحصول على أشياء نادرة تبقى خالدة ستشكل مزجا فنيا مع المقتنيات العصرية بمنزلها، فقد اشترت سابقا صالون مجهز وأنيق قدر بأربعة عشر مليون سنتيم في حفل زفاف ابنها. من جهة أخرى، تعتبرها أشياء لها علاقة بالجبال وبالطبيعة التي نشأت وترعرعت بها بحكم موطني بلاد القبائل على غرار آلة “المهراس” التقليدية، وعودة مجددا إلى الماضي والحنين إلى العادات العائلية. بين التجارة والولع والمنفعة تبقى التحف الفنية شكل من أشكال التعبير تختزل الحنين إلى الماضي وأيام الزمن الجميل لفترات من التاريخ الطويل للإنسانية جمعاء في مختلف دول العالم، إذا بقيت هذه التحف في منأى عن الغش والاحتيال.   القسم الثقافي    
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)