الجزائر

بن خلدون بين العقل والخرافة ، أو بين الآبلي وابن ودرار






20 نوفمبر 2008
مقدمة :

أجمع العديد من الباحثين في الفكر الخلدوني على مزاوجة صاحب العبر بين تيّارين في الفكر العربي الإسلامي : فكر تاريخي أصيل ومتفرّد عبّر من خلاله عن توجّه عقلاني ومتفتّح على الآخر ساعده على استيعاب وإعادة تأليف جل ما سبقه؛ وفكر خرافي إيديولوجي ومذهبي ترجم بكل عنف انغلاق هذا الفقيه وعَكَسَ الإطار المعرفي الاقتصادي والاجتماعي للعصر الذي شاهده ابن خلدون.

تأصّلت هذه المفارقة بموجب ثقافة مزدوجة ذات توجّهات متناقضة كان لها تأثير كبير على تحصيله المعرفي. فهل أن معرفتنا بشيوخ ابن خلدون ورجال السياسة والفكر الآخرين الذين عرفهم عن قرب، قادرة على كشف وإثبات هذه الازدواجية؟

للإجابة عن هذا التساؤل يمكننا القيام بعمليّة مقارنة بين توجّهات وممارسات متقابلة أثّرت في فكر صاحب العبر، جسّدها من ناحية أحد شيوخه وهو الآبلي، ومن ناحية أخرى وزير السلطان أبي عنان المريني وهو ابن ودرار. فالكشف عن الأطر المعرفيّة للنخبة السياسية والعالمة في ذلك العصر، على توجُّهاتهم الفكرية وعلى مدى تأثيرهم في فكر ابن خلدون، سيمنحنا فرصة الكشف عن التناقضات التي كابدها صاحب العبر خلال فترة زمنية اعتبرت من أصعب الفترات التي شهدها المجال المغاربي في العصر الوسيط.

ابن خلدون والآبلي :
لم يحظ الآبلي بدراسة شافية ومتكاملة ولم نعثر إلاّ على مقالة لناصيف نصّار1 إضافة إلى فصل خصّصه له محمد طه الحاجري في كتابه الصادر سنة 1980،2 لكن هذه الدراسة تبدو مجرّد إعادة صياغة لما قيل في شخصيّة الآبلي من قبل مؤرّخي العصور الوسطى، ولم ير الحاجري نفعا في الإشارة إلى المصادر لتي استقى منها معلوماته.

إضافة إلى والده، اكتفى ابن خلدون باستعراض سبعة وعشرين شيخا من بين مجموعة كبيرة من الشيوخ الذين أخذ عنهم بطريقة أو بأخرى نوعا أو أنواعا من العلوم السائدة في عصره. ومن بين هؤلاء نجد الآبلي محمد بن إبراهيم شيخ العلوم العقليّة ببلاد المغرب والذي أولاه تلميذه مرتبة عالية من بين بقيّة الشيوخ الذين ذكرهم بالتعريف. فمن هو هذا الشيخ وما هو دوره في تكوين التلميذ وهل استوعب ابن خلدون فعلا علومه العقليّة؟

يكفي أن نورد هذه الصفات التي وصفها به ابن خلدون في كتابه لباب المحصّل في أصول الدّين كي نعلم مدى أهميّة هذا الشيخ في المسيرة العلميّة لتلميذه :

إلى أن طلع الآن شمس نور آفاقه، ومدّ على الخافقين رواقه، وهو سيّدنا ومولانا الإمام الكبير العالم العلاّمة فخر الدنيا والدين، حجة الإسلام والمسلمين، غيّاث النفوس، أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الآبلي، رضي الله عن مقامه وأوزعني شكر إنعامه، شيخ الجلالة وإمامها، ومبدأ المعارف وختامها، ألقت العلوم زمامها بيده وملّكته ما ضاهى به كثيرا ممّن قبله وملّكته ما لا ينبغي لأحد من بعده، فهي جارية على وفق مراده، سائغة له حالتَيْ إصداره وإيراده. فاقتطفنا من يانع أزهاره واغترفنا من معين أنهاره، وأفاض علينا سيب علومه وحلاّنا بمنثور درّه ومنظومه 3

لقد حافظ ابن خلدون طيلة حياته على رأيه وموقفه من شيخه الآبلي، إذ نلاحظ نفس صفات التِجِلَّة والوقار بـ "التعريف" الذي كتبه في أواخر حياته، في حين أن "اللباب" قد كتبه بتونس وهو لم يتجاوز العقد الثاني من عمره. فيصفه بالتعريف قائلا : " شيخ أهل المغرب لعصره في العلوم العقلية، ومفيد جماعتهم " (7/386)4

ولد الآبلي بتلمسان سنة 681 هجري (1282م) وتوفّي سنة 757 (1356م) بفاس، أندلسي الأصل من مدينة آبلة5 الواقعة بالشمال الغربي لمدريد، كان والده قائدا عسكريّا ضمن جيوش الدولة الزيانية في عهد يغمراسن بن زيّان6.

إلى نهاية العقد الثاني من عمره، نشأ الآبلي ضمن مناخ آمن سياسيّا، وضع أسسه يغمراسن وأكّده ابنه عثمان طيلة أربعين سنة متتالية، لكنَّ هذه الدِّعة النِّسْبِيَّةَ التي تمتّع بها سرعان ما انكسرت بسبب حملة يوسف بن يعقوب المريني (685-706 ﻫ / 1286-1290م) على تلمسان، فبعد المناوشات التي تتالت بين سنتي 689 ﻫ /1290م و697 ﻫ /1297م، قرّر السلطان ضرب حصار نهائي على معقل الزيّانيين7 بداية من شهر شعبان سنة 698 ﻫ (ماي 1299م) دام ثماني سنوات، توفي خلالها عثمان بن يغمراسن سنة 703 ﻫ (1304م) فخلفه ابنه الأكبر محمد أبو زيان الأوَّل (703-707 ﻫ /1304-1308م).

لقد عاش الآبلي الحملة على بتلمسان وشاهد عن قرب بعض الأحداث داخل العائلة الزيانية إذ كان في صباه قهرمان دارهم (7/127) أي تُرجمان، من أمناء الحاكم وخاصّته.8

في بداية الحصار كان للآبلي 17 سنة شمسية وهي سن تخوّل له في تلك الفترة، القيام ببعض الشؤون الإداريّة التي لا تقلّ في أهميتها عن دور الحاجب، لا سيما خلال فترة الحصار الذي دام ثمان سنوات وانتهى في شهر ذي الحجة سنة 706ﻫ (جوان1307م) بمقتل السلطان يوسف بن يعقوب من قبل أحد عبيده داخل معسكره ومدينته التي ابتناها جوار تلمسان وسمّاها المنصورة. هذا الحصار انتهى وقد بلغ الآبلي 25 سنة، لكنه لم يقض كامل فترة الحصار داخل المدينة، إذ فضَّل الهروب والالتحاق بالشرق فانظم إلى جماعة من المتصوّفة وسافر في موكبهم قاصدا البقاع المقدسة بداية من شهر جمادى الثانية سنة 699 ﻫ (مارس1300م). وصل الموكب إلى تونس برًّا ثم أبحر نحو الإسكندرية ومنها توجه الجمع نحو مكة، وبعد أداء الفريضة انتقلوا نحو كربلاء ومنها تمّت العودة إلى المغرب الأقصى.

لا يمكّننا الآبلي عن طريق تلميذه بأيّة معلومات شافية حول علاقاته ومشاهداته للأحداث التي واجهته خلال هذه الفترة التي تعتبر طويلة نسبيّا [7 سنوات] قد يكون لها دور أساسي في تحصيله المعرفي وفي توجهاته الفكرية. ونرجّح أنَّ الآبلي اختلق حكاية غريبة لا أساس لها من الصحّة تجعل المحيطين به ببلاده يعتقدون في أنه لم يستوعب شيئا من أحداث ومعارف وعلوم المشرق، ولم تكن له أيَّة اتصالات مريبة بالشخصيَّات الفاعلة في الأحداث بالشرق.

تتمثل حكاية الآبلي في أنه تناول عن طريق الخطأ، وهو على متن السفينة بين تونس والإسكندرية، مادة الكافور، فاختلط عليه الأمر وفقد إمكانية تمييزه للأشياء حتى إنه قابل البعض من فقهاء البلاد المصرية وهم تقي الدين بن دقيق العيد وابن الرفعة9 وصفي الدين الهندي10 والتبريزي11 وغيرهم من فرسان المعقول والمنقول، فلم يكن قُصَارَاه إلا تمييز أشخاصهم (7/520) فإن كان الآبلي على هذه الحالة من الاختلاط، فكيف استطاع القيام بمناسك الحج؟ وهل تعتبر زيارته للبقاع المقدسة حجّا مبرورا وسعيا مشكورا؟ أم إننا نفترض أن العمل بالنيّات؟ وان كان المرض قد أصابه على السفينة، فلماذا لم يبادر الشيخ العلوي الكربلائي الذي كان في رفقته منذ بداية السفر إلى ردّه نحو بلده انطلاقا من الإسكندرية؟ أو لماذا قَبِلَ به لمواصلة الرحلة معه إلى الحجاز ثم إلى كربلاء وقد كان بإمكانه أيضا ردّه إلى المغرب رفقة وفود الحجيج المغاربة العائدة بعد أداء فريضة الحج؟ لا يطرح ابن خلدون هذا التساؤل ولا يمكّننا من أي سبب، ولا يقدم لنا الآبلي أي تفسير سوى أنه استطاع استرجاع مداركه العقلية فجأة عندما أصبح ببلاده ثانية ويبرر فقدانه لتوازنه المذكور طيلة المدة التي قضاها بالشرق، بموقف الشيخ الذي رافقه منذ انطلاقه من تلمسان، إذ سعى هذه الأخير إلى حجز أموال الآبلي لتجنّب إمكانية ضياعها أو تبذيرها ولم يسترجعها إلا بعد عودته إلى المغرب رفقة أصحاب هذا الشيخ الذي أمرهم بمشايعته إلى وطنه.

من الصعب جدًّا تصديق رواية الآبلي هذه ونحن نرجّح فعلا اختلاقها من قِبَلِهِ تجنّبا لكل الاحتمالات السيئة. فماذا فعل الآبلي طوال هذه الفترة التي قضاها بالعراق؟ هل زار بغداد؟ ومن الأكيد أنه استقرّ ولو لفترة بدمشق والقاهرة، ما هي الكتب التي طالعها؟ هل التقى بابن تيمية وبتلميذه ابن قيّم الجوزية؟ هل لاحظ مخاوف السكان من اجتياح التتار لبلاد الشام؟ تساؤلات عديدة ستظل دون إجابة، لكننا نستطيع أن نستشفّ التوجّهات الكبرى للآبلي من خلال ما عُرف عنه وما اشتهر به وما نقل عنه تلامذته.

إذن، يُمكن تقسيم حياة الآبلي إلى ثلاث فترات غير متوازنة من حيث المدة الزمنية : الأولى إلى سنِّ الثامنة عشر التي قضاها بمسقط رأسه، والثانية تمتد على سبع سنوات قضاها في رحلته إلى الشرق، والثَّالثة تتمثّل في استقراره أخيرا بالمغرب الأقصى بين تلمسان وفاس، وهي الرحلة الأخيرة التي انتهت بوفاته لكنها تعتبر الأكثر خصوبة، خصّصها الآبلي للدراسة والتدريس مفضلا العلوم العقلية التي تلقَّاها على مجموعة من مشاهير شيوخ المغرب آنذاك وهم أبو موسى ابن الإمام وابن البنّاء واليهودي خلُّوف المغيلي بكلٍّ من تلمسان وفاس ومرّاكش وأصبح متضلِّعا في الحساب والرياضيات والمنطق والفلسفة.

لكننا نعتقد أن ما قدّمه له ابن الإمام وابن البنّاء، غير كاف، وان الصّيت الواسع الذي أصبح له لدى العامة والخاصة كان نتيجة لمطالعاته الشخصية التي من الأكيد أن يكون قد تحصل عليها ببلاد الشرق.

يشير يحيى بن خلدون إلى أن الآبلي قد عرف بعض علماء الشرق واستفاد من دروسهم لكنه لا يذكرهم ولا يذكر نوعية الدروس التي تلقّاها منهم، أما المتأكد فعلا فهو أن الآبلي كان على علم بكلِّ الفلسفة الشرقية من خلال كتاب الرّازي محصّل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين 12 والذي اقترح على ابن خلدون مراجعته وتلخيصه فأخرجه التلميذ بعنوان لباب المحصَّل في أصول الدين.

لقد قرأ الآبلي لأبي عبد الله الرّازي (606 ﻫ / 1210م) الذي اعتبره أوحد زمانه في المعقول والمنقول وعلوم الأوائل وله العديد من المؤلفات، كما قرأ لنصير الدين الطوُّسي(672 ﻫ / 1274م).13 من تلامذته قطب الدين مسعود الشيرازي14 الذي كان متواجدا بالعراق خلال نفس الفترة التي تواجد خلالها الآبلي بالشرق.

إننا نرجّح أن هذه الإقامة الطويلة للآبلي، قد مكّنته من الإطلاع على عديد الكتب الفلسفية، فالرّازي والطّوسي هما مُمَثِّلاَ خطَّ التواصل مع أبي حامد الغزالي بالنسبة للأول، ومع ابن سينا بالنسبة للثاني. ويعترف ابن خلدون أن شيخه الآبلي قد درّس كتاب الإشارات لابن سينا إلى تلميذه الشريف الحسني التلمساني الذي سيكون بدوره شيخا لابن خلدون. وفي مكان آخر يشير صراحة إلى هذا الكتاب المذكور قائلا : لمّا كان هو [الحسني] أحكم ذلك الكتاب [الإشارات] على شيخنا الآبلي. (7/536) وعند ترجمته لابن عبّاد الرندي15 كتلميذ من تلامذة المقّري الجدّ،16 يشير المقّري الحفيد إلى أن الرندي قد درس على الآبلي كتاب الإرشاد 17 لأبي المعالي الجويني18 ونحن نعلم أن إمام الحرمين هو أوّل من نظّر في إمكانيّة الاستفادة من العلوم الفلسفيّة وخاصّة المنطق؛ وقد اعتمد على منهجه فيما بعد تلميذه الغزالي في كتابه المستصفى.

إنَّ جملة هذه المعطيات تؤكد معرفة الآبلي بكتب الفلسفة والمنطق، وإضافة إلى ذلك فإننا يمكن أن نستخلص المزيد من الاستنتاجات انطلاقا من بعض النصوص الواردة بالعبر :

أثناء استعراضه لقبائل المصامدة البربرية أكّد ابن خلدون على قبيلة هسكورة التي لجأ إليها الآبلي هروبا من أبي حمّو أمير تلمسان الذي أراد استخدامه في ضبط أمواله ومشارفة أحواله فأعذل الحيلة في الخلاص منه ولحق بفاس ثم استدعاه شيخ الهساكرة وأقام عنده مدّة (7/520-521) وعندما يطلعنا ابن خلدون على أخبار هذا البطن من قبيلة مصمودة، فإنه يشير إلى امتناع المصامدة بمنطقة جبليّة صعبة المنال، رفضت الدخول في طاعة بني مرين فيقول : وأما هسكورة، وهم لهذا العهد في عداد المصامدة ولما انقرض أمر الموحدين استعصوا على بني مرين مدة، واختلفت حالهم معهم في الاستقامة والنفرة، وكانوا ملجأ للنازعين عن الطاعة من عرب جشم، ومأوى للثائرين منهم. (6/271) أي إن هذه المنطقة تعتبر ملجأ لمن رفض الخضوع للسلطة المركزيّة أيّا كانت، وذلك ما فعله الآبلي بصفة أو بأخرى، إذ يضيف ابن خلدون بفصل آخر : ولما انقرض أمر الموحدين وتغلب بنو مرين على المصامدة أجمع، اعتصم هسكورة هؤلاء بمعقلهم واعتزّوا فيه بمنعتهم، فلم يغمسوا في خدمتهم يداً، ولا أعطوهم مقاداً ولا رفعوا بدعوتهم راية. (6/354)

كما يشير صاحب العبر إلى أن أحد قادة هسكورة وهو عبد الواحد وكان له في الاستبداد والصرامة ذكر، وهلك سنة ثمانين وستمائة، وكان منتحلاً للعلم، واعية له، جمّاعة لكتبه ودواوينه، حافظاً لفروع الفقه محباً في الفلسفة، مطالعاً لكتبها، حريصاً على نتائجها مطلعاً على الشرائع القديمة والكتب المنزّلة بكتب التوراة، ويجالس أحبار اليهود حتى لقد اُتهم في عقيدته ورُمي بالرغبة عن دينه.(6/354-355)

نستنتج من النصّ السّابق أن المعرفة الفلسفيّة والكتب في مجال العلوم العقليّة كانت متوفّرة بهذه المنطقة الجبليّة الممتنعة،19 ومن الممكن أن يكون الآبلي قد اطّلع عليها خلال إقامته لدى شيخ الهساكرة علي بن محمد بن تروميت (7/521) لا سيما وإن الفاصل الزمني بين وفاة عبد الواحد المذكور آنفا ( سنة 680 ﻫ/ 1281 م) وإقامة الآبلي بالجبل (سنة 710 ﻫ/ 1310م)، لا يعتبر ذو أهميّة بالغة، ثم أن ابن خلدون يشير إلى أن هذه الإقامة دامت أعواما : ثم صعد إلى جبل الهساكرة بعد وفاة الشيخ باستدعاء علي بن محمد بن تروميت ليقرأ عليه، فأفاده، وبعد أعوام استنزله ملك المغرب، السلطان أبو سعيد، وأسكنه بالبلد الجديد والآبلي معه . (7/514) ونفس هذا المعطى يشير إليه المقّري الحفيد قائلا بأنه سكن جبال الموحدين.20 فماذا كان يفعل الآبلي طيلة هذه الأعوام؟ هل كان بمقدوره الخنوع والاستسلام إلى أمره دون مطالعة، والاكتفاء بالعبادة، أو بدروس يقدّمها لبعض الشباب من أهل الجبل؟

تعرّف ابن خلدون على شيخه بتونس خلال حملة أبي الحسن المريني على إفريقيّة، فلزم مجلسه لمدة ثلاث سنوات.(7/532) ويبدو أن العلاقة بينهما أصبحت متميّزة لا سيما بعد فقدان صاحب العبر لوالديه من جرّاء الطاعون وقبول الآبلي الإقامة ببيت ابن خلدون.(7/521)

لكن وريث أبي الحسن وهو إبنه أبو عنان طالب بضرورة عودة الآبلي إلى فاس، وأرسل له سفيرا خاصّا به وسفينة لتقلّه. فما الذي دفع بأبي عنان للمطالبة بالشيخ ؟ ألا يكفيه أعضاء مجلسه العلمي الذي يعجّ بالعلماء وبأشباههم؟ هل كان السلطان المريني في حاجة أكيدة للآبلي؟ أم كان يعتقد أن هذا العالم يمثّل رمزا من الرموز التي يجب التشبّث والتجمّل بها والحفاظ عليها وبالتالي فهو أولى بها من الحفصيين؟

لقد فرّ الآبلي من أبي حمّو أمير تلمسان لكنّه لم يستطع تفادي دعوة أبي الحسن ولا دعوة ابنه أبي عنان، ولا نستطيع تفسير قبوله البقاء بتونس في ضيافة آل ابن خلدون إلاّ برغبته في الابتعاد عن أهل الشوكة والقهر. لقد فشل في الانعزال بجبل الهساكرة عندما أراد أن يكون كالرهبان في خلوته، ذاك للعبادة وهو للقراءة والعلم، وفشل في البقاء بتونس رفقة طلبة العلم لأن السلطة السياسية أرادت أن يكون تحت مراقبتها، داخل منظومتها، وإلاّ فإن مصيره سيكون الاتهام بالجنوح عن الدين القويم.

يمثّل الآبلي في الحقيقة نموذجا من النماذج النادرة، المعزولة التي لازالت تتخبّط دون جدوى من أجل الحفاظ على استقلاليّة تفكيرها وممارساتها في زمن تكلّست فيه كل الأفكار والمعتقدات، وتعطّلت فيه كل الصور، وأضحى الحلم محظورا والتنقّل ممنوعا والكتابة في غير المديح كفرا؛ وسيصبح ابن خلدون صورة مصغّرة من شيخه. فالنظام الذي طوّق فكر وتحرّكات الشيخ، سينجح في احتواء التلميذ مبكِّرا. ونعتقد أن الآبلي قد مكّن تلميذه من وسائل غير معهودة دفعته إلى فتح آفاقه على حقول جديدة للمعرفة لم تكن متوفّرة له بمحيطه العائلي ولا حتّى بحلقات الدرس التي كان قد تلقّاها بالجامع.

انبهر ابن خلدون بشيخه لأن هذا الأخير كان مختلفا في طريقة تبليغه للمواد المدروسة ولمواضيع المواد المجترّة، وكان حضوره إلى جانبه خلال فترة حرجة من حياته وهي فترة انتقاليّة بين نهاية مرحلة التلقّي والشباب وبداية مرحلة العطاء والمسؤوليّة، فعندما تعرّف ابن خلدون على شيخه، كان له 16 سنة من العمر، أما الآبلي فكان في أواخر العقد السّابع.

ساعد حضور الآبلي على حجب الفراغ الذي أحدثه غياب الوالدين الفجئي، لذلك نلاحظ مدى تشبث التلميذ بأستاذه. ولعلّ الآبلي كان يسعى من خلال اتصاله بابن خلدون إلى دفعه نحو ما عجز هو فعلا عن تحقيقه، وهو الابتعاد قدر المستطاع عن أصحاب الشوكة والسلطة، لأنه لا أمل في أي فكر مُدَجِّن من أن يجد له صدى داخل المجتمع، مهما بلغت عبقريّة هذا الفكر وتفرّده.21

ابن خلدون وفارس بن ميمون بن ودرار :
هو أحد رجال الدولة المرينيّة منذ عهد السلطان أبي الحسن وكان وزيرا وقائدا من قادة جيش أبي عنان ضد بني عبد الواد بتلمسان وضد الحفصيين بقسنطينة وتونس لكنّه أذعن لشيوخ ورؤساء القبائل الثائرة ضدّ أبي عنان واتفق رأيه مع رأي قادة جيشه الذين ضاق ذرعهم بشأن النفقات وارتكاب الخطر في دخول إفريقية، فتمشّت رجالاتهم في الانفضاض عن السلطان، وداخلوا الوزير فارس بن ميمون، فوافقهم عليه، وأذن المشيخة والنقباء لمن تحت أيديهم من القبائل في اللحاق بالمغرب ونمي الخبر إلى السلطان أنهم تآمروا في قتله وتقبّض [أبو عنان] يوم دخوله [فاس] على وزيره فارس بن ميمون وقتله قعصا بالرماح، وتقبّض على مشيخة بني مرين فاستلحمهم. (7/394)

التقى ابن خلدون بهذا الوزير قبل سنة 757 (1356م) أي سنة تراجع القوّات المرينيّة وانسحابها نحو المغرب الأقصى، وكان ابن خلدون في منتصف العقد الثالث من عمره، فطرح عليه تساؤلا حول خبر أورده ابن بطّوطة (ت : 779 ه‍/1377 م) صاحب كتاب الرحلة مفاده أن ملكا من ملوك الهند بدلهي كان يوزّع المال على رعيّته بسخاء مفرط وبواسطة منجنيقات ترمى بها شكائر الدراهم والدنانير على الناس (1/228) واستغرب ابن خلدون هذا الخبر وكذّبته العامّة من الناس وأثار استخفاف الخاصّة، فقال لي الوزير فارس، إياك أن تستنكر مثل هذا من أحوال الدول بما أنك لم تره ويقدّم له الوزير مثال الطفل المسجون مع والده الذي لم ير الغنم أبدا، وعندما أكل من لحمها سأل والده قائلا : هل الغنم مثل الفأر؟ ويواصل ابن خلدون حديثه : لهذا كثيراً ما يعتري الناس في الأخبار كما يعتريهم الوسواس في الزيادة عند قصد الإغراب وإنما مرادنا الإمكان بحسب المادة التي للشيء، فإنا إذا نظرنا أصل الشيء وجنسه وصنفه ومقدار عظمته وقوّته (1/228) أي إن ابن خلدون يجنح في آخر المطاف إلى رأي ابن ودرار القائل أن ملك الهند هذا، من العظمة والقوّة والقدرة والثروة بمكان، يجبر العقل على تصديق رواية ابن بطّوطة. فمرونة التفكير التي عبّر عنها ابن خلدون في البداية، كبح جماحها هذا الوزير ووجّهها وجهة مخالفة.

من أين ستكتسب ملكة النقد والتمحيص عندما يُشلّ العقل بهذه الطريقة، ويُمنع الشك حتى في أكثر الأخبار سذاجة، فابن خلدون يأبى إتباع مسار العقل حتى في ثنايا حيفه وضلالاته ،22 فهو يرى أن الشرع ينهانا عن النظر في الأسباب، فيقول : و تأمل من ذلك حكمة الشارع في نهيه عن النظر إلى الأسباب والوقوف معها فإنه وادٍ يهيم فيه الفكر ولا يحلو منه بطائل ولا يظفر بحقيقة. (1/581) ويتوجه بالنصح إلى معاصريه قائلا : اتبع ما أمرك الشارع به من اعتقادك و عملك فهو أحرص على سعادتك وأعلم بما ينفعك لأنه من طور فوق إدراكك ومن نطاق أوسع من نطاق عقلك (1/582) ثم يستشهد بقولة مشهورة للشافعي دون ذكره : وهذا هو معنى ما نُقل عن بعض الصديقين : العجز عن الإدراك إدراك. (1/583)

يمكن إدراج هذا النوع من الرّوايات ضمن إطار الفكر الخرافي الذي تفشّى بكل الأوساط بالمجال الإسلامي. فالخرافة حادثة ذات منطلق ومصدر حقيقي وواقعي، انتقلت بواسطة الشفوي وعبرت مساحات جغرافيّة وزمنيّة ولغويّة متعدّدة، فوصلت إلى آخر من رواها رأسا على عقب، ففُسِّرت تفسيرا خاطئا بمفعول دور الخيال والمبالغة، إلى أن أُفرغت من محتواها التاريخي، كي تصطبغ بصبغة غيبيّة أو تقديسيّة، وشاعت بفضل أدوات وأطر كانت مستعدّة لقبول وتضخيم الرّواية، فأصبحت من الأمور التي لا يمكن التحكّم فيها. وبالنسبة للمؤرّخ تكون الخرافة بالتالي مؤشّرا للتعرّف عن الذهنيّات والظرفيّات التاريخيّة السائدة في عصر ما.

تتمثل وظيفة الخرافة في تهدئة بال أفراد الجماعة ما دامت تسمح لكل فرد أن يستمدّ منها شيئا من الثقة، فالمحظورات الاجتماعيّة تجد ملجأها في الخرافة وكذلك كل ما ينكره العقل وترفضه الأخلاق والمعاملات السائدة. إنها تبرّر ما لا يمكن تبريره اجتماعيّا، فتزكّيها النخبة العالمة وتجعل لها شكلا غيبيّا روحيّا، تتنقّل بواسطته الخرافة من إطار الثقافة الشعبيّة إلى الثقافة الرسميّة التي تسعى دواليب الدولة إلى تثبيتها، فتتحوّل الأسطورة إلى كرامة من كرامات الله23

لا فائدة هنا من إثبات التوجّه العقلاني الذي عبّر عنه ابن خلدون خاصة في "المقدمة". فهنالك العشرات من هذه الدراسات24 التي ما فتئت تكرّر نفسها رغم افتقارها للجديّة الآكاديميّة.25 لذلك تمّ التأكيد هنا على الجانب الثاني المعتّم من الفكر الخلدوني وهو التوجّه الخرافي الذي لم يستطع صاحب "المقدّمة"، وما كان باستطاعته تفاديه.

لقد اعتقد ابن خلدون في إمكانية التعرّف على بعض الأحداث السياسية انطلاقا من منظومة الزايرجة وهذا دليل على خضوع صاحب العبر لمجال الخرافة، فيقول في وصفه للزايرجة : ومن هذه القوانين الصناعية لاستخراج الغيوب فيما يزعمون الزايرجة المسماة بزايرجة العالم، وهي غريبة العمل صناعة. وكثير من الخواص يولعون بإفادة الغيب منها بعملها المعروف الملغوز، فيحرّضون بذلك على حل رمزه وكشف غامضه.(1/145-146) ثم يضيف في فصل علم أسرار الحروف أن الزايرجة ليست من علم الغيب وإنما هي مطابقة بين مسألة وجوابها في الإفادة فقط (1/668-695)

من خلال التعمّق في تطوّر فكر ابن خلدون، يبدو لنا أن صاحب العبر لم يكن مقتنعا خلال فترة شبابه بمثل هذه الشروحات المعتمدة على الغيب والرؤيا، لكن معطيات العصر ما فتئت تجلبه نحو الاعتقاد في الفكر الخرافي وهو أسهل السبل لشرح ما لم يستطع العقل تفسيره آنذاك.

فعند دراسته لبعض المعطيات التاريخيّة التي حاول بعضهم تفسيرها بواسطة الزايرجة، أفادنا هنري بول جوزيف رينو في دراسته حول التخمين بشمال إفريقيا خلال عصر ابن خلدون، أن العديد من رجال السلطة كانوا يلجئون إلى المتحكّمين في هذه الوسيلة لاستجلاء مصيرهم ومصير ما يعتزمون القيام به من أعمال أو حروب. ويشير إلى حادثة وقعت بين ابن خلدون وصديق له يدعى جمال الدين عبد الملك بن عبد الله المرجاني صاحب تأليف في كيفيّة استخلاص الإجابة من أيّ سؤال يطرح على الزايرجة وضعه خلال شهر صفر من سنة 773 ( سبتمبر 1371). وقد ذكر المرجاني هذه الحادثة في كتابه ومفادها أن ابن خلدون قد أنكر عليه مرجعيّة الزايرجة للرسول أو أن هذا العِلم قد مكنه النبيّ من أحد أصحابه وهو حذيفة بن اليمان26 مثلما ادّعى ذلك قاضي قسنطينة أبو علي الحسن ابن باديس ( ت : 787ﻫ / 1385م)، ويحدّد المرجاني تاريخ الواقعة خلال سنة 773 ببسكرة. أمام هذا الاستنكار الخلدوني، اقترح المرجاني على ابن خلدون القيام بتجربة فوريّة بإلقاء السؤال على الزايرجة وهو التالي : هل الزايرجة علم قديم أم حديث؟ فكانت الإجابة أنها تعود إلى عصر النبيّ إدريس الذي مكّنه الله من التحكّم فيها!! هذه الإجابة دفعت بابن خلدون إلى الرقص والدوران على سطح منزله.27

تفيدنا هذه الحادثة أن ابن خلدون لم يستنكر الوسيلة في حدّ ذاتها بل عزوها إلى الرسول، وعندما قام بالتجربة رفقة صديقه، "تيقّن" من صحّة المعلومة التي أثبتت الإجابة قِدَمَها، فاطمأنّ قلب ابن خلدون بل وعبّر عن ابتهاجه بالرقص على سطح المنزل وهو في العقد الرابع من عمره. إنه يرى في الزايرجة منظومة مركّبة ومنسّقة خاضعة لقواعد لا يمكن أن يتفطّن إلى إمكانية استعمالاتها إلاّ اللبيب، وهي تحمل في طيّاتها كل إجابة عن كل سؤال يمكن طرحه.

هل كان بإمكان ابن خلدون أن يشذّ عن مثل هذا التفكير الخرافي في حين أن العديد من رجال السلطة والفكر في عصره قد لجئوا إلى استعمالات الزايرجة؟ من بين هؤلاء يذكر المرجاني في تأليفه أبو العبّاس أحمد الحفصي أمير قسنطينة وسلطان إفريقيّة الذي طلب من أبي محمد عبد الله ابن الحاجب الحفصي ابن تافراجين إلقاء السؤال على صاحب التأليف حول غياب أبي حمّو أمير بجاية الذي لم يستطع أبو العباس القبض عليه.28

كما يشير المرجاني أيضا إلى سؤال آخر طرحه ابن مرزوق الخطيب وهو من شيوخ ابن خلدون، فيقول أن ابن مرزوق عندما حلّ بإفريقيّة وتحصّل على منصب الخطابة بجامع الموحدين، حاول التعرّف على إمكانية حصوله على منصب الحاجب بإفريقيّة في عهد السلطان أبي العبّاس بواسطة هذه الزايرجة.29

إن هذه الإشارات لمستعملي هذه الطريقة التخمينيّة دليل واضح على أن الفكر الخرافي قد شمل كل الفئات والنخب السياسيّة والعلميّة دون استثناء، وما المستوى المعقّد للزايرجة إلاّ ضمان نفساني يسمح بتبرير الجواب الخاطئ وتأويل الإجابة على أساس نسيان تفاصيل كانت تبدو ثانويّة أو عدم الإلمام بكل المعطيات بجزئياتها الدقيقة. ثم لا ننسى أن ابن خلدون كان كجميع المؤرّخين، الإخباريين والنظّار منهم، يستلذّ بالغرائب والعجائب. 30 وفي هذا المضمار يضيف محمد أركون أن عامة الشعب الفقيرة الجائعة ميّالة للتعلّق بالآمال الطوباويّة لأنها لا تملك غيرها. 31

يشير المقريزي إلى عدّة روايات سمعها مباشرة عن شيخه ابن خلدون، وهي روايات تنسجم مع الإطار الفكري العام الذي تبنّاه صاحب العبر، ومن بينها نذكر الرواية التالية : حدّثنا أبو زيد قال : جزت ببلد المريّة عام خمس وستين وسبع مائة، فسمعت أهلها يذكرون أن عندهم واديا فيه نوع من الطير فوق الجبل، إذا وقف أحد تحته وقال كم أعيش من العمر؟ صاح عدة أصوات بعدّة سنين عمره، وإن ذلك لم يخط قطّ. فمضى غلام كان معي إلى ذلك الوادي، ثم جاء وذكر لي أنه لمّا سأل كم يكون عمري؟ صاح طائر تسعة وثلاثين صوتا ثم سكت. فسرنا عن المدينة وأقمنا ما شاء الله، إلى أن كنّا في بادية، فاعترض بعض الأحياء قوم يريدون أخذهم، فنفر إليهم طائفة من أصحابي وفيهم ذلك الغلام، فدافعهم عن الحيّ ساعة وهم يقاتلونهم، فأصاب الغلام مزراق خرّ منه ميتا، فحسبت عمره فكان تسعا وثلاثين سنة سواء. 32 ولا نعلم لماذا لم يقم ابن خلدون بإلقاء السؤال على هذا الطائر! لمعرفة مدى طول عمره الشخصي، وكيف كان بإمكانه تصديق مثل هذه الظواهر، لأن مجرّد روايته لها لتلامذته دليل على اعتقاده فيها. وعندما نفكّر في اعتقادات ابن خلدون هذه ونقارن موقفه بمواقف سابقة لبعض مفكّري القرنين الرابع والخامس هجري، ومماثلة لها من حيث الشكل والمضمون؛ فإنّنا نستنتج تردّي العقل إلى غياهب العصور الساحقة.

صحيح أن ابن خلدون قد انتقد بعض الخرافات الواردة لدى المسعودي والطبري33 لكننا نجده في العبر يردّد العديد منها، كما يورد بعضها على أساس أنه شاهدها بأم عينه. ومن بين هذه الرويات ينقل صاحب العبر عن ابن العبري34 دون ذكر مصدره ، فيقول حول أخبار البويهيين ما يلي : أن أباهم أبا شجاع كان فقيراً، وأنه رأى في منامه أنه يبول فخرج من ذكره نار عظيمة فاستضاءت الدنيا بها فاستطالت وارتفعت إلى السماء. ثم افترقت ثلاث شعب، ومن كل شعب عدّة شعب فاستضاءت الدنيا بها والناس خاضعون لتلك النيران. وأن عابراً عبّر له الرؤيا بأنه يكون له ثلاثة أولاد يملكون الأرض ويعلو ذكرهم في الآفاق كما علت النار، ويولد لهم ملوك بقدر الشعب (4/563-564)

إن فضول ابن خلدون ليس المعطى الوحيد الدافع لاهتمامه بهذا الجانب المعرفي الغيبي فهو يؤمن صراحة بـ"علم النجوم" وبإمكانيّة الكشف عن أحداث المستقبل مع إمكانيّة الفِعْلِ فيها. فالتكهّن بوقوع الأحداث حسب رأيه ممكن إذ يقول بالكتاب الأوّل : وقد زعم بعض الناس أن هذه الكهانة قد انقطعت منذ زمن النبؤة بما وقع من شأن رجم الشياطين بالشهب بين يدي البعثة ولعلّها عادت بعد ذلك إلى ما كانت عليه وهذا هو الظاهر، لأن هذه المدارك كلها تخمد في زمن النبؤة كما تخمد الكواكب. (1/127) أي إنّه يعترف أن الفكر البشري في المجال الإسلامي، به اتّجاه يدفع نحو وضع حدّ للتنبّؤ والتكهّن تبعا لتحليل فكري يظلّ دينيّا بدرجة أولى، ورغم ذلك نجد ابن خلدون يدفع بهذا الفكر نحو الاتجاه المقابل، ويعبّر بالتالي عن توجّه تقليدي وغيبي، وسنلاحظ تمسُّكه بهذا الاعتقاد في المجالات الموازية للتكهّن والتنبّؤ وهي السّحر والطلسمات، فيقول ليس كل ما حرمه الشّارع من العلوم بمنكر الثبوت، فقد ثبت أن السّحر حق مع حظره. لكن حسبنا من العلم ما علمنا. (1/668) ثم يبرّر سلوكيات من يباشر مثل هذه الأفكار والتصرّفات فيصبغ عليها تزكية إلاهيّة قائلا : . وقد شَهِدتُ جماعة بأرض المغرب ممن اتصل بذلك، فأظهر الغرائب وخرق العوائد وتصرّف في الوجود بتأييد الله. (1/690) ومن خلال محاولته الفصل بين مختلف هذه الظواهر وتصنيفها وتبويبها بإيجاد سلّم معرفي علموي يفرّق بين الوحي والكهانة والرؤيا والسحر والطلسمات، فإنه في الأخير يعترف بها كلّها ويعتقد فيها ويؤمن بجدواها ويقدِّم نفسه شاهدا على بعض "تجلّياتها" قائلا : وقد وقع لي أنا بهذه الأسماء مراء عجيبة، واطلعت بها على أمور كنت أتشوف عليها من أحوالي (1/132) أي إنّه مارس شخصيّا عمليّة الكشف عن مستقبله غير أن القدرة على الاستعداد غير القدرة على الشيء (1/132)

بتتبّع منهجيّة ابن خلدون عند تصنيفه للسحر إلى ثلاثة أصناف، عمل محمد عابد الجابري على تبرير موقف صاحب العبر في هذا المجال فيقول : لا مجال إذن للطعن في فكر ابن خلدون وفي عقلانيته بخصوص هذه المسألة، ولنغضّ الطرف عن اعتقاده بالسحر، ما دام يدرج ذلك في نطاق الأمور الخفيّة 35 لكن محمد الطالبي يرى غير ذلك فيقول : فعقليته [ابن خلدون] عقيليّة عصره تماما من حيث كثير من المعتقدات التي كانت رائجة في عصره ومنها السحر مثلا ولم يخطر بباله أن هذه الفاعليّة من قبيل الوهم والهلوسة.36 ولا نجد أي مبرّر لصاحب العبر، ونردُّ كل محاولات التبرير في هذا المجال بالتحديد، من قبل بعض الباحثين عندما نقرأ لابن خلدون هذه الكلمات : من شأن كل مدرك إنكار ما ليس في طوقه إدراكه، ويكفينا في ردّ ذلك مشاهدة العمل بهذه الصناعة والحدس القطعي، فإنها جاءت بعمل مطّرد وقانون صحيح لا مرية فيه عند من يباشر ذلك ممن له ذكاء وحدس. (1/148) فهل أصبح السحر والطلسمات من بين مقاييس من له القدرة على توظيف الحدس والذكاء لديه؟

إن اعتقاد ابن خلدون في السحر والطلسمات يبرز كذلك من خلال إقحامه لهذا "العلم" في عداد علوم التعاليم إلى جانب الحساب والهندسة، فيقول : و اقتصر كثيرون على انتحال التعاليم وما ينضاف إليها من علوم النجامة والسحر والطلسمات 37 وإضافة إلى تبرير رأيه بالقرآن والسنة، فإنه يجعل لهذه الظاهرة تأثير حقيقي واقعي و"تجريبي" بما أن السحر قد نطق به القرآن و جاءت به الأخبار (1/658) وسحر رسول الله e حتى كان يخيل إليه أنه يفعله، وجعل سحره في مشط فأنزل الله عزّ وجلّ عليه في المعوذتين (1/657)

ويبدو أن ابن خلدون قد قام بتمرير هذه الاعتقادات إلى طلبته، إذ يشير المقريزي إلى رواية سمعها مباشرة عن شيخه، فيقول : حدثنا أبو زيد أنه خرج من تونس في سنة أربع وثمانين وسبع مائة وبها امرأة مشهورة بالسحر، يأتيها المسافرون في البحر ويبتاعون منها الهواء لمدة معينة بمبلغ مال، فتدفع إليهم إناء مجوّفا مسدود الفم، وتقول : إذا توقّف الريح فافتحوا هذا الإناء، فيسيرون بمراكبهم إلى أن يقف الريح، فيحلّون الإناء فتخرج لهم ريح تسير مراكبهم مدة ما شارطتهم. 38

يصادق ابن خلدون على تحليل المنجّمين حول ثروات الشرق مقارنة بأحوال المغرب قائلا : ولقد ذهب المنجمون لما رأوا مثل ذلك واستغربوا ما في المشرق من كثرة الأحوال واتساعها ووفور أموالها فقالوا بأن عطايا الكواكب والسهام في مواليد المشرق أكثر منها حصصاً في مواليد أهل المغرب؛ وذلك صحيح من جهة المطابقة بين الأحكام النجومية والأحوال الأرضية كما قلناه وهم إنما أعطوا في ذلك السبب النجومي وبقي عليهم أن يعطوا السبب الأرضي وهو ما ذكرناه من كثرة العمران واختصاصه بأرض المشرق وأقطاره، وكثرة العمران تفيد كثرة الكسب بكثرة في الأعمال التي هي سببه. (1/458)

فالتحليل الاجتماعي والحضاري الذي تصدّى ابن خلدون لتقديمه لنا، لا يتعارض حسب رأيه مع التحليل الغيبي الفلكي، بل هو مكمّل له. هذا التوجّه التوفيقي المشوب بأفكار إيديولوجيّة سابقة، انسحب على مجمل أفكاره وتحليلاته. إنه لم يكن محايدا، ولم يكن مجرّد ملاحظ لظواهر وأحداث عصره، إذ نجده أحيانا فاعلا لمثل هذه العمليّات التنجيميّة، فيشير المقريزي إلى أنه طلب من أستاذه أن يرى له الطالع في خصوص إمكانيّة تعيينه في إحدى المناصب الرسميّة داخل الدولة المملوكيّة، فقال أنه عيّن له يوما، فكان كذلك. 39 فالحلّ الذي ارتضاه ابن خلدون، ووضعه لم يكن صورة لما هو كائن فحسب، بل لما ينبغي أن يتواصل على منواله، الفكر والممارسة.40
خاتمة :

لقد كان ابن خلدون منخرطا أشدّ الانخراط في أحداث عصره بممارسة الحسابات والتوقّعات التنجيميّة التي كانت متفشّية بين أهل بلاد المغرب وغيرها من المجالات الجغرافيّة الأخرى سواء بالعالم الإسلامي أو بأوروبا، كما تبنّتها النخبة العالمة والحاكمة عن اعتقاد راسخ في الأمر.41 لذلك يمكن أن نستنتج في آخر المطاف أن التأثير السلبي لرجال السياسة الذين احتكّ بهم قد هيمن على إمكانيّات التفتّح العقلي الذي منحه إياه البعض من شيوخه، فالتناقض في الفكر الخلدوني ينبغي ألاّ يثير عجبنا لأن ابن خلدون في ذلك متماثل مع مفكّري العصر الوسيط وظلّ يتحرّك ضمن الأطر العامة القائمة عصرئذ، يمدّ نفسه للأمام وهو مشدود بأكثر من وثاق إلى الوراء. 42


مع جزبل الشكر على الإشارة إلى مصدر المقالة
محمد العادل لطيّف - أستاذ جامعي في التاريخ الوسيط - سوسة
11/01/2011 - 10154

Commentaires

سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)