الجزائر

بن حمودة رجل حوار ومفاوض محنك


مرت 21 سنة على اغتيال النقابي الكبير عبد الحق بن حمودة، لتعود مع ذكرى رحيله الغادر مواقف وخيارات الرجل الذي تولى مسؤوليات الأمين العام للاتحاد العام للعمال الجزائريين، لحوالي سبع سنوات من 1990 خلفا للطيب بلخضر إلى غاية 1997 وبالذات في الثامن والعشرين جانفي يوم اغتياله حينما سقط أمام مقر دار الشعب. بعد انخراطه النشيط في العمل النقابي ضمن قطاع التربية الذي اشتغل فيه أستاذا في المتوسط بقسنطينة ليتحول إلى مدير برز في فيدرالية عمال التربية من خلال إظهار قدرات وطاقات نقابية بفضل قدرة الحوار والتفاوض، مما دفع به ليتبوأ منصب أمين عام النقابة العتيدة في وقت كانت تواجه فيه ظروفا صعبة.لم يكن سهلا العمل النقابي في تلك الفترة بالنظر للوضعية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتدهورة جدا، فراهن على الحوار والتفاوض من أجل ايجاد أفق لعالم الشغل المثقل بتراكمات سنوات من أزمة اقتصادية ومالية خانقة أدت إلى طرح خيارات مؤلمة، خاصة بعد توقيع مخطط التصحيح الهيكلي لصندوق النقد الدولي بكل ما تمخض عنه من تسريح للعمال وغلق لمؤسسات اقتصادية آل عمالها إلى البطالة. وبينما كان يدرك ثقل المسؤولية في مواجهة مؤشرات سلبية للغاية لا تعطي فسحة لإدراك الانفراج الاقتصادي والاجتماعي زادتها مضاعفات التوترات السياسية وانسداد أفق الحل مما دفع بالقوات الحية للبلاد إلى تحمل المسؤولية الوطنية لإنقاذ ما يمكن خاصة وأن قوى أجنبية نافذة في العالم سعت إلى توظيف الأزمة الجزائرية لحساباتها الجيواستراتيجية الخاصة.
كانت الجبهة الاجتماعية الجدار الذي يستوجب الترميم والحماية تفاديا لأن يستثمر فيه أصحاب مشروع تدمير ونهب الجزائر من خلال إحداث شرخ بين المجتمع والدولة الوطنية، وأدى الفقيد دورا ميدانيا مشهودا له رغم نقائص هنا وضعف أداء هناك داخل المنظمة النقابية، فكان صاحب ثقافة تواصل ونقاش على الطاولة غير مستسلم ولا مناور ولا مقايض، يؤمن بقوة الكلمة ويجيد الدفاع عن الحقوق ولو بإمكانيات ضئيلة، فخاض في الميدان السياسي حيث اشتدت المعركة مظهرا طاقة غير محدودة للذهاب إلى أبعد ما يمكن لإسماع صوت العمال وعدم ترك أدني فراغ قد يشغله خصوم وأعداء الوطن.
وبفعل صلابة مواقفه بشأن ملفات أساسية، دخل في حالات عديدة في خلافات مع الشركاء سواء بعض وزراء حكومة تلك المرحلة أو الباترونا خاصة وأن الساحة حملت مطالب لا يمكن القبول بها بالجملة مثل حل المؤسسات وتمكين أرباب العمل من الانفراد بالقرار إلى درجة تحرير مجال التسريح والطرد وبلغ الخلاف مداه لما أعطيت لصاحب العمل في القطاعين العام والخاص سلطة عدم تطبيق قرارات العدالة المتعلقة بإعادة العمال المفصولين مقابل منح تعويضات تقديرية فقط. لم يكن يهادن في المسائل الجوهرية وغالبا ما كان يستخدم أمثالا شعبية لها دلالات قوية مثل طاق على من طاق حينما يرفض من حول الطاولة إبداء تنازلات معقولة. إلا أنه دائما يغلب لغة الحوار وفتح باب مكتبه لكل من يرغب في ذلك بمن فيهم ممثلو وسائل الإعلام الذين يسهل لهم الوصول إليه ونقل مواقفه والتوسع في النقاش بلا حدود، فقد كان صاحب مواعيد مضبوطة وكلمة حاسمة، إلى درجة أن من مسؤولين في الحقل الاقتصادي كانوا يضعون له ألف حساب كونه يتحكم في الملفات ويجيد قواعد الحوار.
كان يشعر بأن الطموح كبير لحماية عالم الشغل والواقع صعب في ظل تفاقم الأوضاع الاقتصادية التي زادتها تعقيدا الأزمة الأمنية، خاصة لما شرعت الجماعات الإرهابية الدموية والتخريبية في تنفيذ برنامجها الموجه لإلحاق أكبر الأضرار بالبلاد من خلال استهداف مقدرات الأمة من تخريب للمصانع واغتيال للقيادات النقابية وترويع للعمال وتشريد لأسرهم مع بث إشاعات تثبط العزيمة وترويج لمغالطات تنشر الشكوك في المجتمع الذي وجد في تأطيره النقابي وهبة أفراده للدفاع عن حق الوجود وحرية القرار، خاصة وأن أكثر من جهة أجنبية أماطت اللثام عن مخططاتها باحتضان عواصمها لقيادات الجماعات الإرهابية وتوفير الحماية لهم والدعم المالي والسند الإعلامي المغرض.
وخاضت النقابة بقيادة بن حمودة أصعب التحديات الشاملة خاصة حينما تحول الأمر إلى واجب الدفاع عن مكتسبات الأمة وحماية خيارات المجتمع المتمسك بالديمقراطية والحريص على التعددية لكن دون العودة إلى الهيمنة الحزبية الأحادية لأي كان أو تسلط جماعات نفوذ مهما كانت. وأبدى تمسكا شديدا بتوفير إطار ملائم ولو على مستوى الحد الأدنى للحماية الاجتماعية للعمال في وقت أصبح فيه التسريح وغلق المؤسسات أمرا معيشا، وخاض معركة إعداد التشريعات ذات الصلة مثل صندوق التأمين على البطالة التقاعد المسبق دون شرط السن، ولم يكن يخفي أمام مساعديه امتعاضه من تقصير البعض ولا مسؤولية البعض الآخر خاصة فيما يخص تجسيد مخطط إعادة التصحيح الهيكلي، حيث كان شغله الشاغل منع استحواذ أصحاب النفوذ على بقايا المؤسسات المحلّة ولكن هيهات...
ومن بين المتاعب التي واجهها اقتطاع أجور العمال والموظفين دون استشارته، كما كان يريد وحدثت أزمة عميقة بلغت حدا لم يكن ممكنا أن يستمر وتدخل يومها الرئيس الأسبق اليمين زروال ليعالج الموقف بتخصيص مقابل الاقتطاع الحتمي نسبة فائدة مقبولة فعادت الأمور إلى نصابها، وتم تجاوز الإشكال للتوجه إلى أفق مصيري كان لزاما أن يتحمل المجتمع بكل شرائحه عبء المرحلة واستمرت المعركة بعد رحيله إلى أن انتصر المجتمع وبقي المواطن الجزائري صاحب القرار السيادي حتى ولو كانت أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية مزرية لتحل بعدها المصالحة الوطنية تتويجا للوئام الوطني وتعود الجزائر إلى وضعها الصحيح والأصلي، بلدا حيويا بشعب منتج ومتطلع لمزيد من الرفاهية. رحم الله الفقيد وكافة من خدموا المصلحة العليا للوطن بلا شروط أو مقايضة.
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)