الجزائر

المفاخرة بالتصهيُن: جو بايدن ينافس لويد جورج



بقلم: مالك التريكي
منذ منتصف القرن العشرين والطبقة السياسية الأمريكية عن بكرة أبيها مؤمنة بأن تأييد دولة إسرائيل مبدأ أخلاقي علما أن هذا التأييد سرعان ما صار جزءا لا يتجزأ من الشعور الوطني الأمريكي. كما أن الطبقة السياسية مؤمنة بأن تأييد إسرائيل واجب سياسي وتعرف البشرية بأسرها اليوم أن هذا التأييد جزء لا يتجزأ من الأمن القومي الأمريكي لا عند الطبقة السياسية فحسب بل وعند عامة الأمريكيين. والأرجح أن عامة الأمريكيين لا تعلم (وربما لو علمت فإنها لن تكترث) أن أستاذي العلاقات الدولية جون ميشايمر وستيفن وولت أصدرا عام 2007 كتابا بعنوان اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية برهنا فيه أن الاعتقاد الشائع بتطابق المصلحة القومية الأمريكية مع المصلحة القومية الإسرائيلية هو مجرد افتراض لا سند له من الواقع وأن معظم ما تبذله الولايات المتحدة من الموارد الاستراتيجية والسياسية والعسكرية والاقتصادية يخدم مصلحة إسرائيل لوحدها دون أن تجني منه الولايات المتحدة بالضرورة شيئا ذا بال. بل إن الباحثين وثقا كثيرا من الحالات وأوردا كثيرا من الأدلة التي تثبت نقيض الافتراض الشائع: أي أن المصلحة الأمريكية لا تقتضي تأييد إسرائيل أو مساعدتها إلا في حالات محدودة وربما اقتضت في حالات أخرى الوقوف ضدها. ولكن سطوة اللوبي الداعم لإسرائيل هي سبب حرمان السياسة الخارجية الأمريكية من القدرة على إجراء المراجعات الواقعية اللازمة وعلى الفهم الأمثل للمصلحة.
*الأمن القومي الأمريكي
ومنذ منتصف القرن العشرين وجميع الرؤساء الأمريكيين بلا استثناء مؤيدون لدولة إسرائيل بدءا من هاري ترومان الذي يظن الكثيرون أن السبب الوحيد لتأييده إنشاء الكيان الصهيوني هو كسب أصوات اليهود في انتخابات 1948 ولكن كل من يقرأ مذكرات ترومان يدرك أنه قد كان أيضا مؤمنا بعدالة المطالب الصهيونية بحكم نشأته البروتستانتية وتأثره بروايات العهد القديم. ورغم أن من الرؤساء الأمريكيين من بزّ البقية في مجال التضامن الآلي مع إسرائيل إما عن وعي سياسي ومعرفة ثقافية مثلما هو شأن بيل كلنتون أو عن مجرد تقليد اجتماعي مثقل بالجهل الشخصي مثلما هو شأن دونالد ترامب فإن جو بايدن هو الذي تفوق على جميع أسلافه بضرب من التمذهب الصهيوني الحماسي الذي كان من المفترض أن تحول نشأته الكاثوليكية دونه أو تجعله أقل اندفاعا. ومن أحدث آيات هذا التمذهب المفرط أن بايدن قد اغتنم مناسبة عيد الأنوار اليهودي (الحانوكا) ليفاخر من قلب البيت الأبيض بأنه صهيوني. وهذه لعمري فعلة لم يأتها من قبل أي رئيس أمريكي ولو أن رئيس الحكومة البريطاني لويد جورج قد كان سباقا قبل أكثر من مائة عام إلى مفخرة التَّصَهْيُن هذه التي لم ينازعه فيها أحد ولا حتى آرثر بلفور وزيره للخارجية الذي وهب ما لا يملك لمن لا يستحق .
على أن إحدى أغرب غرائب التمذهب الصهيوني الباكر لدى بايدن أن الاجتياح الإسرائيلي للبنان قد أتاح له عام 1982 فرصة المزايدة السياسية على مناحيم بيغن! فقد روى بيغن للصحافيين الإسرائيليين أنه التقى في واشنطن بعد أيام من بدء الاجتياح بأعضاء لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ وأنهم ساءلوه شديد المساءلة حول إفراط الجيش الإسرائيلي في استخدام القوة. ولكن عضوا شابا قام خطيبا فأعلن في خطابه المفعم بالحماسة كامل التأييد لعملية سلام الجليل ولِزام علي أن أقول إني لم أسمع منذ زمن خطيبا يضاهيه في الموهبة . ومما قاله الشاب (بايدن) أنه مستعد للمضي أبعد مما فعلت إسرائيل وأنه سيواجه بالقوة كل من يريد غزو بلاده حتى لو استدعى ذلك قتل النساء والأطفال. واستدرك بيغن: نأيت بنفسي عن هذا الموقف وقلت له: لا يا سيدي. لا بد من الحرص والعناية. قيمنا تحرّم علينا إيذاء النساء والأطفال حتى في الحروب. في بعض الحالات يقع ضحايا من السكان المدنيين. ولكن من المحرم السعي إلى ذلك عمدا. إن تجنب إيذاء المدنيين هو أحد معايير الحضارة الإنسانية .
وبصرف النظر عن مدى صدق مزاعم مناحيم بيغن حول الالتزام الإسرائيلي بالأخلاقيات فإن جوهر القصة هنا أن بايدن قد أثار دهشة بيغن بمزايدته عليه وأنه نجح لفرط ما أبداه من نزعة عدوانية وميول ِإباديّة في أن يجعل الإرهابي اليهودي البولندي المطلوب للعدالة البريطانية يظهر بمظهر السياسي الطيب القلب الرؤوف بالإنسانية!


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)