الجزائر

المرزوقي .. من رجل يطارده البوليس إلى قصر قرطاج



 في سنة 2000 تنقلت إلى تونس من أجل حضور محاكمة تخص رابطة حقوق الإنسان التونسية التي كانت مهددة برفض مؤتمرها، بعدما فاز في انتخاباتها المعارضون لنظام الرئيس بن علي. ويومها رفض قاضي الجلسة أن يرافع المحامي الجزائري والناشط الحقوقي بوجمعة غشير لصالح الرابطة، رغم أن هناك اتفاقيات قضائية بين تونس والجزائر تبيح المرافعات لمحامي البلدين.
 بعد حضور وقائع المحاكمة اتفقت مع الزميل في جريدة ''الوطن'' فيصل مطاوي، بأن نتنقل إلى سوسة لمقابلة المعارض التونسي منصف المرزوقي الذي أسس مع مجموعة من رفاقه المجلس الوطني للحريات في 10 ديسمبر 1997 بمناسبة الذكرى السنوية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وقد اختير أول رئيس للجنة العربية لحقوق الإنسان من عام 1997 حتى .2000
وبعد مكالمة هاتفية معه وافق على مقابلته في نفس اليوم دون أي تردد منه، بعدما عرف أننا صحفيون جزائريون من جريدتي ''الخبر'' و''الوطن'' اشترينا تذاكر القطار باتجاه مدينة سوسة، حيث ضرب لنا موعدا للقاء به في مقهى اسمه ''كافي مور'' وطرحت سؤالا على نفسي لماذا لم يستقبلنا في بيته واختار الترحيب بضيوفه في مقهى؟ بعد ساعة وبعض الدقائق وصلنا إلى سوسة، وكان الجو يومها غائما ورياح قوية، لم نستطع الصمود جالسين على كراسي ذلك المقهى من شدة البرد. كنا الوحيدين في ذلك التوقيت الباكر جالسين في المقهى، قبل أن يأتي شخص آخر ليجلس بعيدا عنا ببضع أمتار، لم نعره أي اهتمام إلا بعدما مرت دقائق عن موعد اللقاء المتفق عليه مع السيد المرزوقي.
وعندها قلت لزميلي فيصل، أليس ذلك الجالس هناك هو منصف المرزوقي، شككنا في الأمر لأن الرجل كان يرتدي برنوسا بنيا من الوبر وكان ما تبقى من شعره صاعدا إلى فوق بسبب الرياح العاتية. وعندها تنقلت نحوه وسألته: من فضلك ألست أنت السيد المرزوقي، فرد عليّ فورا: هل أنتم الصحفيون الجزائريون؟ فأشرت له برأسي نعم، فقال: أوف حسبتكم رجال بوليس.
أول رد تفوّه به قال: لم أستقبلكم في منزلي لأنني تحت الإقامة الجبرية ويمنع عليّ الزيارات ولذلك اخترت هذا المقهى لمقابلتكم فيه، ومع ذلك هناك حشود من أفراد البوليس منتشرون في كافة هذه المنطقة. قلت في نفسي أكيد أن هناك مرض ''فوبيا'' لدى المرزوقي من رجال البوليس الذين يراهم في كل مكان، رغم أننا لم نلاحظ ذلك لأول وهلة، حيث كان الجو يبدو لنا عاديا وحركة المارة أكثر من عادية. بعد دردشة قصيرة لكسر الجليد أبلغنا المرزوقي أننا نريد إجراء حوار مطوّل حول السياسة في تونس وأحوال المعارضة والقمع الذي يتعرض له الناشطون الحقوقيون من قبل نظام بن علي، فطلب منا الدخول إلى داخل المقهى وعدم البقاء في ساحته الخارجية.
وبمجرد بداية طرح الأسئلة الأولى عليه وإخراج أجهزة التسجيل، حتى بدأ التدافع لأناس مفتولي العضلات إلى داخل المقهى ومنه إلى صالة خلفية للمقهى. نحن كنا منشغلين بطرح الأسئلة ولم نأبه لما يجري في محيط المقهى، حيث كان النادل وصاحب المقهى يتعرضون للاستنطاق حول ''هؤلاء'' الذين يجلسون مع المعارض التونسي المطارد والمغضوب عليه. ولم نتفطن للأمر إلا عندما شاهدنا أن الكل كان يرتدي ''كوستيمات'' ونسمع من حين لآخر صوت أجهزة الإرسال اللاسلكي.
بعد إتمام الحوار نصحنا منصف المرزوقي بأن نخبىء أسطوانة التسجيل في أي مكان لكي لا يصل إليه ''البوليس''، لأننا، حسب كلامه، سنتعرض للتفتيش والمراقبة. ورغم هذه التحذيرات لم نكن ندري أننا دخلنا عرين الأسد ونواجه أزلام نظام بن علي. غيّرنا المكان بعدما أقسم منصف المرزوقي بقبول دعوته لنا لتناول الغذاء في أحد المطاعم القريب من المكان ويسمى ''مطعم لامارينا''، حيث استمتعنا بأكلات تونسية على السريع لأننا  كنا نرغب في عدم تضييع آخر قطار من سوسة للعودة للعاصمة تونس، خصوصا وأن حالة الجو الغائم كانت توحي وكأن الظلام قد حل. قبل توديع منصف المرزوقي أخذنا صورا تذكارية معه ولفّ بعدها برنوسه على أكتافه وانطلق بسرعة بعدما كان قد أكد لنا بأن ''نظام بن علي وحش برجلين من طين وآيل للسقوط طال الزمن أو قصر''. كنت أنا وزميلي فيصل فرحين، لأن زيارتنا إلى تونس كانت خمسة على خمسة بعدما حققنا كصحفيين المراد منها من حيث المادة الإعلامية.
ولم نكن ندري أن كل المنطقة محاصرة من طرف رجال البوليس إلا عندما أوقفت سيارة أجرة لتنقلنا إلى محطة القطار، بحيث ناديت على زميلي للركوب فإذا به في قبضة رجال الأمن الذين اعتقدت أنهم سياح وتاهوا ويسألون صديقي عن أمر ما، فقلت لصاحبي ''قل لهم نحن لسنا من هنا ولا نعرف المنطقة''، لكن بمجرد أن انتهيت من كلامي حتى سمعت صوتا ورائي يقول ''وثائقك''؟ فرددت ''من أنتم''؟ فقالوا ''لاشيء إجراءات روتينية''، فقلت ''أنا جزائري ولن أمكّنكم من الوثائق حتى أعرف من أنتم''. بعد تردد للحظات قيل لي ''نحن أمن''. ومن يد لأخرى وصل جواز سفري إلى كبيرهم الذي كان يقف على بعد عدة أمتار وجاءني معه السؤال ''ماذا جئت تفعل في تونس''، فرددت سياحة وما ساعدني على هذه الأكذوبة جواز سفري الذي كانت مدوّنة فيه المهنة طالب، عكس زميلي فيصل الصحفي، وجدناهم قد نصبوا في كل الطرقات حواجز لإيقافنا في حالة ما لو سلكنا طرقا غير الطرق المعروفة، وبعدها وضعت سيارة ''رونو ''19 عليها أربعة شداد غلاظ لتتبّع خطواتنا ومراقبتنا  حيث ما ذهبنا، بل قاموا بتفتيش أمتعتنا التي تركناها في الفندق علهم يعثرون على ''كاسيت الحوار''. لقد تحولت تونس يومها وكأنها ثكنة صغيرة، بحيث أينما ولّينا وجوهنا وجدنا البوليس وراءنا بالمرصاد.
بعد أقل من 10 سنوات من الإقامة الجبرية والنفي واللجوء السياسي في الخارج، كان تشريح الدكتور الطبيب لمرض ''سيستام'' بن علي صحيحا، ولم يعد منصف المرزوقي مطاردا، بحيث شارك بعد ثورة الياسمين في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في 23 أكتوبر 2011 مع حزبه المؤتمر من أجل الجمهورية الذي حاز على المركز الثاني وراء حركة النهضة الإسلامية. وقد تحصل الدكتور منصف المرزوقي على مقعد في دائرة نابل2 وسيجلس على كرسي الرئاسة في قصر قرطاج، وهي أولى ثمار الثورة ....فسبحان مغيّر الأحوال من حال إلى حال..




سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)